لم نعد بحاجة إلى دفن الرؤوس في الرمال كالنعام، أو تجميل وجه صورة لا تكفيها مساحيق تجميل العالم، فقد مضى قطار الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى آخر محطات تحرير الاقتصاد دون خجل أو تردد أو حتى استئذان ناظر المحطة، وأخضع الرئيس قومه قسرًا الى منتهى تجربة الانفتاح في مختبر آلام ال40 عاما المستمرة منذ عهد السادات، قد يكون رفع الدعم الحكومي ذروة تجربة بمعيارها (الفلسفي) القابل للتفنيد أو التكذيب، أوالجائز اختبارها بشكل دائم من أجل إصلاح عيوبها، لكن السيسي وإدارته صادروا حتى على الجانب الإنساني في التجربة، وجعلوا من نجاح تلك الذروة صكًا فوريا وحقيقة علمية لا تقبل الشك، رغم ما أثبتته النتائج المرحلية من فشل كافة خطوات تجربة سرقت من عمر مصر عقود، وحولت حياة أهلها لمسلخ بشري كبير. يروج الخطاب السياسي لحكم السيسي لقرارات تاريخية تعالج ما يراها كوارث الأنظمة المتعاقبة منذ ما بعد انتصار أكتوبر المجيد، كوارث لم نلمح فيها تصريحا أو تعريضا بإدانة انفتاح "السداح المداح" أو رأسمالية المحاسيب أو الفساد الإداري والبيروقراطي أو النهب المقنن والمنظم أو الزبائنية السياسية أو الاقتصاد الريعي، بل كان غاية المراد من مشهد الفشل الساداتي المباركي هو ورقة توت (الدعم الحكومي)، وهو ما رأى فيه السيسي هدفا استراتيجيا ثمينا استتبعه بحرب خاطفة، بغية تأديبه وتهذيبه وإصلاحه ثم دفنه للأبد، بل وصاحب تلك الغزوة (العنترية) تمهيد نيراني إعلامي لإسطوانة عبء (الدعم) على كاهل الدولة المصرية، والمفارقة أن من شاركوا في دق طبول تلك الحرب نخب سياسية ونضالية ثارت على قرارات رفعه في عصر السادات. لا بأس، فتلك حكمة الله في كونه وسلطانه على قلوب عباده، وسبحان مقلب الأحوال من حال الى حال، وهي الحكمة الإلهية عينها التي أسبغت على السيسي نعمة ذلك الصمت الشعبي الخرافي لخوض سباق بتر الدعم، وتسديد الكرة الساداتية في المرمى بعد أن ضلت طريقها في 1977، ووضع الهدف الأخير في مرمى الرأسمالية الذي تأخر كثيرا، فبدت سرعة وتيرة أحداث الأيام الماضية وكأننا إزاء مباراة تلعب في أمتارها الأخيرة، ولا يفصلها سوى 8 أعوام فقط على مرور ال45 عاما الكئيبة، وهي بالتمام والكمال عمر قرارات السادات التي تراجع عنها، بعد انتفاضة شعبية سماها (المؤمن) انتفاضة حرامية. رغم أهمية الوقت في تلك الحرب الخاطفة، لم يحتاج السيسي الى ميقاتي لتنفيذ ضربته، و لم يحمل من متاع الدنيا إلا "أطقم سواطير" في اليد اليمنى و"بوكيهات ورود" في الأخرى، ب"السواطير" اقتطع ما تبقى من أقوات الفقراء في منتصف الليل، وتركهم في النهار تحت الشمس الحارقة يلتحفون السماء، دون أي مظلة حماية أو أمان أو استعداد لتقبل النقد، أما "بوكيهات الورود" فكانت من نصيب رجال الأعمال ومافيا المستثمرين معبقة برسائل الود والطمأنينة على أموالهم ومستقبل مسروقاتهم التي أتاحها لهم النهب المقنن من جيوب المصريين لعقود، بل ولا بأس من التسامح مع نجيب ساويرس ومجالسته على مائدة رمضانية رجال الأعمال، بعد أيام من حملة تشهير عالمية استباقية قام بها ضد الحكم في مصر، عقب الحكم على شقيقه أنسي ساويرس في قضية شيك بدون رصيد مع مصلحة الضرائب. إذن، وببوادر هذه المعادلة الاقتصادية المجحفة، يدخل المصريون المرحلة الأخيرة من التجربة المرعبة في مختبر الانفتاح، بعد ثورتين من المفترض أن تحققا مكاسب اجتماعية للفقراء على حساب الأغنياء، وتمدهم بشبكة أمان اجتماعي تاريخية أو وعود لتنفيذها على أقل تقدير، على شاكلة قوانين العمل بالقطاع الخاص والحد الأدني للأجور بها، والتأمين الصحي للفقراء ومحدودي الدخل، لكن المؤشرات لم تفض الى أية بشرة خير أو حتى بقاء للوضع على ما هو عليه، بعدما وضعت فزاعة الدين العام وعجز الموازنة كغطاء أخلاقي لتمرير سياسات تقطير المليارات من دماء الفقراء، وهي السياسات التي لا تخدم سوى كلمة سيئة السمعة اسمها الاستثمار! نحن رهن لمشيئة الأقدار، وكما بدلت أحوال الكثيرين، فقد يتحول المرء مع ضربات الحظ التاريخية الى مستثمر أو قل بارون وحوت وهامور، فذلك سلطان الله على جيوب عباده يؤتي من يشاء وينزع عمن يشاء، لكن وقتئذ أيضا لن أشعر بالأطمئنان على استثماراتي التي ستكون في مهب الريح، هذا إذا لم تجد قاعدة اجتماعية صلبة تنشأ عليها وتحتضنها من تقلبات الغضب والانفجارات الشعبية والثورات الاجتماعية، وإصرار القائمين على الأمر في ترديد نظرية الهبوط الرأسي لعوائد النمو التي صدعنا بها نظام مبارك، وشرعت الباب واسعا أمام الانفلات والفوضى، فذلك مما لا يدعو الى الاطمئنان أو التفاؤل.. لا مفر من التحذير.. فصمت المصريين هو علامة صبر وتربص وترقب وليس رضا وقبول وفرح! [email protected]