سواء قبل ثورة 25 يناير 2011، أو بعدها، كثيراً ما رددت القول: إن كتباً بالذات، لو توفرت ونشرت على نطاق واسع، وعممت ودرست أيضاً في المدارس، فإن ذلك معناه أن ثورة حقيقية قامت في البلاد، ونجحت وبدأت تحقيق أهدافها وبدأ تأثيرها..!. ومن بين هذه الكتب على سبيل المثال، كنت دائماً أشير إلى كتب المفكر والمؤرخ والكاتب الموسوعي "محمد عودة"، وعادة أبدأ بالإشارة إلى كتابه "ميلاد ثورة". فهو كتاب يقدم قضيته بأسلوب "عودة" المتميز، السهل الممتنع والممتع، وبتناوله الذي يجمع بين وضوح الأفكار وترتيبها، والتدفق الجميل كأن كل فصل، إن لم يكن الكتاب ككل: دفقة واحدة. ففيه ككل كتبه وكتاباته صفاء روح عودة، وسلامة ونبل مقصده، وجمال نفسه وسريرته. أما القضية التي يتناولها "ميلاد ثورة"، فهي مجمل التاريخ المصري الحديث منذ عصر محمد علي إلى مقدمات ثورة 1952 إلى معركة وملحمة السويس 1956. وقد صدر من الكتاب طبعة واحدة، في الذكرى الأولى لرحيل جمال عبد الناصر (عن كتاب الجمهورية، العدد 31، أول أكتوبر 1971). وعندنا أن كتاب "الوعي المفقود" (عن القاهرة للثقافة العربية 1975) هو الجزء الثاني، المتمم ل "ميلاد ثورة"، لأنه يتابع التناول التاريخي السياسي الفكري، لقضية الثورة والحركة الوطنية المصرية منذ 1952 إلى ما بعد رحيل جمال عبد الناصر في 1970، وحتى منتصف السبعينيات، فليس الكتاب مجرد رد على الحملة المستعرة ضد ثورة يوليو وقائدها، في ظل انقلاب الثورة المضادة برئاسة السادات، كما أنه كما يكتب عودة على غلاف كتابه: "ليس هذا الكتاب رداً على توفيق الحكيم… ولا تحيزاً لجمال عبد الناصر… ولكنه دفاع عن الشرف السياسي والثقافي لمصر". وفي الحقيقة، فإنه ليست هذه الثنائية العظيمة وحدها (ميلاد ثورة / الوعي المفقود)، هي التي نفدت ولا يعاد طبعها لمحمد عودة، إنما كل كتبه التي تجاوزت العشرين كتاباً، وكلها درر ثمينة ومن عيون أدبيات الكتابة السياسية والتاريخية والثقافية. ورغم كل محاولات "منتدى محمد عودة" برئاسة الأديب العظيم والإنسان العزيز النبيل بهاء طاهر، وكل محاولات أصدقاء وتلاميذ عودة… فإن أبرز المسئولين عن دور النشر العامة والخاصة، أبدوا اهتماماً واستجابة، ووعدوا بطبع الأعمال الكاملة لعودة، أو على الأقل بعض نتاجه، لكن اتضح أنهم جميعاً كانوا يعدون بغير أي جدية أو نية صادقة!!. والحق أنه يحزنني أن أجد حتى الآن من بين الأجيال الجديدة من لا يعرف محمد عودة حق المعرفة… وبعضهم حتى لا يعرفه أي معرفة!. ويحزنني أن أرى بينهم من يستفسر ويقول أنه لا يستطيع أن يجد كتاباً واحداً لمحمد عودة في أي مكان، فكتبه لم تجد جاداً واحداً يفي بالوعد بنشرها، منذ رحيل عودة في 18 أكتوبر 2006، وحتى اليوم حيث نحتفي بعيد ميلاده في 10 يوليو 2014!!. وقد كتب عودة بعض أكثر الكتب تميزاً ورقياً، بساطة وعمقاً، وأعماله في صدارة الكتب التي تقدم رؤية شاملة موثقة لتاريخ مصر الحديث والمعاصر… كما كتب أمتع مراجعنا وأكثرها موضوعية، عن قضايا وتجارب ثورية في العالم والوطن العربي (منها كتبه المتفردة "الثورة الصينية"، و"رحلة في قلب نهرو"، و"ثورة العراق"، و"الطريق إلى صنعاء"..). أما فيما يخص التاريخ المصري فقد كتب، كأمثلة: "الحملة الفرنسية على مصر"، و"كرومر في مصر"، ومجموعة كتب تعد موسوعة كاملة عن الثورة العرابية، وكتاباً وافياً عن العهد المكلكي قبيل 1952 "فاروق: بداية ونهاية"… وصولاً إلى مجموعة كتبه العظيمة عن ثورة 23 يوليو وملحمتها. نعم! إننا لن نمل التأكيد على ضرورة أن تعرف أجيالنا، وبينها طلائع بالنسبة لها الثورة قضية مصيرية، بقيمة "محمد عودة" وعطائه العلمي الموسوعي. كإنسان نموذج فذ لرقي التكوين والنبل الإنساني بغير حدود. وكمعلم ورائد وقيمة فكرية، هادية وملهمة، يجب أن ندرسها باستمرار… فننصت لها ونتأمل ونناقش، نجادل ونتفق ونختلف ونستفيد!.