منذ فترة أدلي "عاموس يادلين " الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الاسرائيلية "أمان" بتصريحات خطيرة تمس المنطقة العربية خلال مراسم تسليم مهامه للجنرال "أفيف كوخاني"، جاء فيها ( لقد انجزنا عملا عظيما للغاية في السودان, نظمنا خط ايصال السلاح للقوي الانفصالية في جنوبه ودربنا العديد منها ، وقمنا اكثر من مرة بأعمال لوجستية لمساعدتهم، ونشرنا هناك في الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة علي الاستمرار بالعمل الي مالا نهاية، ونشرف حاليا علي تنظيم "الحركة الشعبية " هناك،وشكلنا لهم جهازا امنيا استخباراتيا " . وهذا التصريح أكدته العديد من الوثائق والدراسات التي نشرت من قبل، ابرزها كان كتاب "اسرائيل وحركة تحرير السودان" الذي كتبه العميد المتقاعد "موشي فرجي" أوضح فيه استراتيجية اسرائيل تجاه السودان والتي تتلخص في سياسة (شد الأطراف ثم ابترها) علي حد تعبيرهم، بمعني مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج النطاق الوطني ثم تشجيعها علي الانفصال لإضعاف العالم العربي وتفتيته وتهديد مصالحه في الوقت ذاته وفي اطار ذلك قامت عناصر الموساد بفتح خطوط اتصال مع تلك الاقليات" منها الأكراد في العراق والموارنة في لبنانوالجنوبيين في السودان" . ويشرح كتاب العميد " فرجي " ما فعلته إسرائيل لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر وكيف انها انتشرت في قلب أفريقيا ( في الفترة من عام 56 الي عام 77 حيث اقامت علاقات مع 33 دولة أفريقية) لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه وكيف انتقت من زعماء الحركة الانفصالية واختارت "جون جارنج" فأعدته وساندته لكي يتحدى حكومة الخرطوم ويفرض نفسه عليها، وقد أشار المؤلف الي أن هذا المخطط بدأ تنفيذه في أواخر الخمسينات وأوائل الستينيات وكان " اروي لوبراني " مهندس العملية الذى قال بوضوح لابد من رصد وملاحظة كل ما يجري في السودان الذي يشكل عمقا استراتيجيا لمصر بالإضافة لسواحله المترامية علي البحر الاحمر. بدأت الاتصالات مع الجنوبيين من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا، تحت غطاء الشركات الإسرائيلية التي أنشأت في أثيوبيا وكان "أشير ناتان" مدير شركة "أنكودا " هو أول من قام بالاتصال بالزعماء الجنوبيين، وقد تسلل الإسرائيليين من خلال قبيلة" الدينكا " أقوى قبائل المنطقة إلى الجنوب وقد قام دافيد كيمحى بتوسيع نطاق هذه الاتصالات في كونه مديرًا عاما لوزارة الخارجية الإسرائيلية،و قد مر دعم إسرائيل للحركة الانفصالية في الجنوب السوداني بخمس مراحل هي: في الخمسينيات ركزت إسرائيل على أمرين الاول: تقديم المساعدات الإنسانية للجنوبيين والأدوية والمواد الغذائية والأطباء, والثاني: استثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم وتعميق هوة الصراع بين الجنوبيين والشماليين. وفي الستينيات بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية تتدفق على جنوب السودان عبر الأراضي الأوغندية ، متمثلة في أول صفقة عام 1962م ومعظمها من الأسلحة الروسية الخفيفة التي غنمتها إسرائيل من مصر في عدوان 56 , وحينما تولى " أوري لوبراني " منصب سفير إسرائيل في أوغندا ثم في أثيوبيا ، تطور ذلك الدعم إلى حد أن بعض ضباط القوات الإسرائيلية الخاصة كانوا ينتقلون لتدريب الانفصاليين في مناطق جنوب السودان . وفى منتصف الستينيات حتى السبعينيات، استمر تدفق الأسلحة من خلال "جابي شفيق " وبعض هذه الأسلحة كانت روسية استولت عليها إسرائيل في حرب 1967 ، وقامت طائرات شحن بإسقاطها على معسكر الانفصاليين في (أورنج كي بول)، كما انشأت إسرائيل مدرسة لضباط المشاة لتخريج الكوادر العسكرية لقيادة فصائل التمرد، وكانت عناصر إسرائيلية تشترك بالفعل في بعض المعارك مقدمة خبرتها للجنوبيين. وفى أواخر السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات استمر دعم التمرد المسلح بزعامة العقيد جون جارانج وفي تلك الفترة ظهر النفط في جنوب السوادان مما عزز دعم الجهات الأجنبية للحركة الانفصالية, إلى جانب ذلك زودت اسرائيل" جون جارانج " بأسلحة متقدمة ودربت عشرة من طياريه على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب ، ووفرت له صورًا عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية ،بل بعض خبرائها لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين فتم احتلال ثلاث مدن في الجنوب عام 1990 وهي ( مامبيو واندارا وطمبوه ) . ثم في أواخر عام 1990، و حتى الآن وصل الدعم الإسرائيلي لجيش تحرير السودان وقائده ذروته ، وأصبحت كينيا هي جسر الاتصال بين الطرفين بدلا من أثيوبيا ، الأمر الذي أوصل الحركة إلى نقطة مخيرة فيها بين الانفصال أو الذهاب إلى أبعد وفرض شروطها على حكومة الخرطوم ، وقد نجحت في تحقيق الخيار الثاني بحيث مدت نفوذها من جوبا عاصمة الجنوب إلى الخرطوم عاصمة البلد كله . لقد كانت إسرائيل تدفع مرتبات قادة وضباط جيش ( تحرير السودان ) وقدرت مجلة (معرجون) العسكرية أن مجموع ما قدمته إسرائيل لجيش تحرير السودان 500 مليون دولار، قامت الولاياتالمتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه . فإسرائيل هي التي أقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناه (جونجلي)، ثم ادعائها بأن هناك خطة لإرسال 6 ملايين فلاح مصري إلى الجنوب (كما حدث في العراق) لتغيير تركيبته السكانية لمصلحة كفة العرب والمسلمين، وبمجرد ظهور النفط في الجنوب أوفدت إسرائيل البروفسور (إيليناهو لونفسكي) لدراسة احتمالاته التي قدرها بسبعة مليارات برميل، ونتيجة لذلك شرع الجنوبيون في المطالبة بحصتهم من هذه الثروة وعارضوا إنشاء مصفاة للنفط في منطقة كوستي، وبعدما أحكم " جون جارانج " سيطرته على الجنوب استعد لإعلان الانفصال وإقامة دولته المستقلة ، وأبلغ الولاياتالمتحدة وإسرائيل والدول المجاورة للسودان بذلك، بل إنه طالب واشنطن رسميا التدخل إلى جانبه إذا ما هاجمه جيش السودان ، ثم بعد الاتفاق مع الشمال أصبح "جون جارانج " نائبًا لرئيس الجمهورية، وصارت حركته جزءًا من النظام الحاكم في الخرطوم واقفة بالباب الجنوبي لمصر. لقد ذكر موقع دبكا debka أن أجهزة المخابرات في كل من أمريكا وإسرائيل وفرنسا تبذل جهودها من أجل تفكيك السودان لأربعة ولايات مستقلة وإسقاط النظام السوداني الذي يرونه أنه نظام إسلامي متطرف " ولاية السودان الإسلامية وسط وشمال السودان , ولاية دارفور في الغرب, ولاية البجا في الشرق ,ولاية جنوب السودان المسيحية التي سيخضع لحكمها جنوب السودان حيث مناطق النفط الغنية ومصادر مياه النيل الأزرق . ولقد ذكرت صحيفة الحياة السودانية أن إسرائيل اتجهت إلى غرب السودان بعد نجاح مشروع جنوب السودان، وإن وفدًا يهوديا من أصل أمريكي رفيع المستوى زار العاصمة البريطانية وعقد لقاءات مطولة مع قادة الحركات المتمردة في دارفور وبصفة خاصة حركة العدل والمساواة . وهكذا يتضح لكل ذي عينين أصابع إسرائيل ليس وراء فصل الجنوب فحسب بل وراء تقسيم السودان كله وتفتيته. دكتور بجامعة بنى سويف [email protected]