من أبرز الظواهر السلبية فى المشهد والحياة السياسية فى مصر غياب ثقافة الاختلاف فى الرأي، بكل ما يمكن أن تولده من تداعيات سلبية، حاليا ومستقبلا . وقد استفحلت فى سنوات ما بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، بصورة خطيرة . ولا يتسع المجال هنا لحصر أمثلة لذلك ، ولكن يمكن التدليل عليها ببعض النماذج الصارخة، على سبيل المثال بالطبع لا الحصر. وفى هذا السياق، وتحت قاعدة أن الخيانة للوطن فقط لا تندرج ضمن تعبيرات الخلاف فى الرأى ولا تعتبر وجهة نظر، بل هى خيانة مؤثمة ومجرمة أخلاقياً وقانونياً . خارج هذه القاعدة يمكن رصد هيستريا الهجوم على الشاعر الكبير الخال عبد الرحمن الأبنودى لمجرد صورة له مع السيسى المرشح الرئاسى المحتمل للجمهورية حتى كتابة هذه السطور . ومن نافل القول أن الأبنودى مهما كانت خلافات الرأى حوله ، قامة وقيمة فى حياتنا الشعرية ، خاصة شعر العامية، وتاريخه الطويل مع الأغنية الوطنية والعاطفية . وفى الحقيقة ، فمثل هذه الصورة لا تنتقص من شعبية الخال، وليست مدخلاً للتقرب أو محاولة للحصول على قطعة من " تورتة " السلطة المقبلة ، وحتى ان حاول البعض توظيفها لصالح هذا المرشح وزيادة شعبيته ، فهذا ليس ذنب الخال ، وكان يمكن ببساطة نقد موضوعى لمثل هذا التصرف، قاعدة ارتكازه هى حب الخال ، وليس الهجوم الضارى عليه، والنيل من تاريخه . ومما له صلة، استمرارية الهجوم الشرس والمعد سلفاً، على المرشح، حمدين صباحى، وتعمد الإساءة لتاريخه الوطنى خلال مرحلة طويلة ممتدة ، وكيل الاتهامات له، دون آدلة دامغة أو قرائن مثبتة، أقلها تقديمها لجهات التحقيق والبت فيها بالقانون وسيادته، الأمر الذى لم يحدث حتى الآن، مما يفقد هذه الاتهامات قيمتها، ويجعلها فى سياق التشويه لاعتبارات انتخابية محضة . ومن البديهيات أن أى شخص ليس بمقدوره أن ينال حالة من الإجماع عليه . فإذا لم يكن يروق لك حمدين صباحى كمرشح لرئاسة الجمهورية ، وهذا حقك ، فلا تنتخبه ببساطة ، لكن غيرك ، وهم كثيرون ، من محبيه ، ويعرفون قدره وقيمته ، وهذا أيضاً حقهم ، بل إن إقدامه على خوض هذه المنافسة الإنتخابية يضفى عليها قيمة ومكانة شريطة أن تكون انتخابات نزيهة وعادلة بين كافة المرشحين ، والفيصل فى النهاية هى صناديق الإقتراع وتفضيلات الناخبين ، لهذا المرشح ، أو ذاك . وهذا بطبيعة الحال ، يقودنا الى جوهر هذه المقالة ، وهو غياب ثقافة الاختلاف فى الرأى: فكثير من القضايا ليست موضع إجماع أو توافق فى الرأى ، بل إن المزاج الشعبى العام بخصوص قضايا بعينها يعكس تنوعاً فى الرؤية ، وتلك ظاهرة ايجابية هامة ، مجالها الرئيسى هو الحجة والمنطق وتصارع الأفكار، حتى تنتصر أو تتغلب رؤية على غيرها بقدر ما تمتلك من قدرات على استقطاب مؤيدين لها، أو مناصرين ومتعاطفين معها بعد تمحيص كافة الرؤى، بطريقة حضارية وسلمية، بعيداً عن الاتهامات وتعمد الإنقسامات غير المبررة والمستحبة والتى لا تصب بالضرورة فى مجرى المصلحة العامة . فبالعودة إلى مثال المرشح حمدين صباحى ، ففى حالة فوزه فى هذه المنافسة الإنتخابية، فهذا تكريس وتتويج لممارسة ديمقراطية شعبية تتوافق مع ما تم وضعه فى خارطة الطريق، الأمر الذى بفند ويدحض أى ادعاءات بأن ما حدث فى 30 يونيو ليس إنقلاباً عسكرياً ، بل ثورة شعبية، إنحاز اليها الجيش ودافع عنها . اما إذا لم يحالفه التوفيق وحصل على نسبة محترمة من تفضيلات جمهور الناخبين، فسوف يكون فى مقدوره، وفى ضوء البرنامج الانتخابى الذى يتقدم به ، أن يشكل معارضة قوية وفعالة لمراقبة مدى التزام الفائز بما طرحه من تعهدات والتزامات للرأى العام ، ومدى انحيازه الفعلى لمبادئ ثورتى 25 يناير و30 يونيو التى باتت معروفة للكافة . وهذا الأمر ينسحب على المرشحين الأخرين فى حالة حصدهم نسبة يعتد بها من تفضيلات جمهور الناخبين بما يؤشر عن وجود معارضة قوية تكبح جماح انحراف الفائز عن توقعات وتمنيات قطاع مهم من الرأى العام والمزاج الشعبى العام ، وتشكل قيداً على الإنفراد بالسلطة ، ومحاسبة فى فترة الولاية الآولى ، وربما تمثل تخوفاً من تبدلات فى التوجهات والتفضيلات لجمهور الناخبين فى اى انتخابات تالية ربما تحرم الفائز من تكرار فوزه ، والتصويت لمرشح أخر يكون فى مقدوره تجسيد هذه التوقعات وتلك الأمانى بصورة عملية وعلى أرض الواقع ، مما يتيح تداولاً سلمياً وفعلياً وديمقراطياً للسلطة ، وتلك أبسط وأهم قواعد الممارسة الديمقراطية وآلياتها . وفى التحليل الأخير، ثمة ضرورة حتمية لأهمية أن تتوافر ثقافة الاختلاف فى الرأى على الساحة السياسية وتكريس هذه الثقافة عبر الممارسة الفعلية والعملية ، بعيداً عن مسار التخوين الفج ، وتعمد كيل الاتهامات الباطلة والملفقة والتى تمتد من شخص من توجه له إلى دائرة أوسع من المحيطين به وتنال منهم بغير وجه حق .