معايير النصر والهزيمة بطبيعتها مركبة, وهي بالضرورة نسبية, ترتبط بالزمان والمكان والسياق واللحظة التاريخية بشروطها وملابساتها, ومن ثم فهذه المعايير ليست مطلقة أو مجردة, تنطبق بذات الفاعلية في جميع الظروف وفي جميع الأزمنة وجميع الأمكنة. بل تنطبق علي العكس من ذلك في إطار ظروف محددة وصراعات متعينة وبيئة محلية وإقليمية ودولية تلقي بظلال علي الكيفية التي يمكن بها الحكم والتقييم للمنتصرين والمنهزمين. وينطبق ما سبق ربما بالقدر ذاته- علي المعارك الحربية والمعارك السياسية, ففي حرب أكتوبر عام 1973 انتصرت مصر وجيشها بالمعني النسبي, أي أنها حققت الأهداف المرجوة من الحرب وهي كسر حالة اللا سلم واللا حرب وعبور القناة واستعادة أجزاء من سيناء والتفاوض من موقع متميز, وكما قال الراحل الكبير المشير أحمد إسماعيل' إننا انتصرنا في حرب عام 1973' بمعني أن مصر حافظت علي جيشها وعتادها بعد تحقيق أهداف الحرب, وهذا الانتصار النسبي تحقق علي ضوء موازين القوي التي كانت قائمة آنذاك, أي التفوق الإسرائيلي المسنود لوجستيا وسياسيا وعسكريا بالولايات المتحدةالأمريكية, كذلك الأمر فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي عام 2006 علي لبنان والمقاومة اللبنانية, حيث يجمع العديد من المراقبين العرب والأجانب علي أن المقاومة انتصرت بالمعني النسبي, أي أنها لم تنهر طيلة أيام القتال, وصمدت ورفعت الكلفة البشرية الإسرائيلية للعدوان والأهم أنها تمكنت من تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية رمزيا ومعنويا علي الأقل, لم يتوقع أحد أن يتمكن حزب الله من فرض شروطه علي إسرائيل, أو أن يقوم باحتلال جزء منها, فالمواجهة كانت بين أحد أقوي جيوش العالم ومقاومة شعبية ومنظمة تتبع تكتيكات حروب العصابات وليس المواجهة النظامية. وبهذا المعني يمكن قراءة نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في مصر في الثالث والعشرين والرابع والعشرون من مايو عام 2012, فقد كسبت الثورة المصرية مرتين الأولي فوز مرشحي الثورة وعلي رأسهم الأستاذ حمدين صباحي بثقة عدد من الناخبين المصريين يفوق ما حصل عليه مرشح الإخوان ومرشح بقايا الحزب الوطني والطبقات المستفيدة من النظام السابق, أما المرة الثانية فقد منحت نتائج هذه الانتخابات قيادة جديدة للثورة متمثلة في حمدين صباحي, وأصبح للثورة عنوان واضح يمكن من خلاله أن تتفاوض وأن تبعث برسائلها إلي من تشاء. في اعتقادي أن بروز قيادة ورمزية حمدين صباحي في هذا السباق, هي أهم مكسب للثورة المصرية وأهم ضمانة لنجاحها وتحقيق أهدافها في المستقبل, وإذا ما حاولنا أن نعود بظاهرة صباحي إلي عناصرها الأولية لامكننا القول أولا بأهمية العامل الشخصي أي شخص حمدين صباحي المناضل والإنسان, إبان الحملة الانتخابية حرص صباحي علي أن يقود أنظف حملة سياسية وإعلامية استندت إلي المنافسة السياسية النزيهة, ولم تندرج في إطار' التلاسن' و'التلسين' و'الغمز واللمز' والتفتيش في الملفات والضمائر قاد حمدين حملته الانتخابية بأخلاق النبلاء والفرسان وأثبت أنه يمكن ممارسة السياسة علي ضوء الجمع والمزاوجة بين الأمانة والأخلاق والاختلاف, لم يهزا بمنافسيه ولم يتعرض لخصومه بصفة شخصية, وأكد أن قلبه يتسع للجميع وأن الاختلاف في السياسة والرؤي والبرامج لا يفسد للود قضية. والأهم من ذلك أن حمدين صباحي وضع يده وقلبه وعقله علي نقطة قوة الثورة المصرية ألا وهي سلميتها, التي انفردت بها دونا عن كل الثورات رغم عمق المظالم والقمع المنظم للحريات والضمائر طيلة هذه العقود, ومن هذا المنطلق فإن حملة صباحي ومرشحها لم يرتكبا أي مخالفات ولم يقدم فيها ولا فيه أي بلاغات و كان ذلك خطا واضحا يتميز بالاستقامة الأخلاقية, في الوقت نفسه لم يمنعه تأكيد النهج السلمي للثورة من التمسك بمطالب الثوار والشهداء والبسطاء والدفاع عنها بمنطق يجمع بين القوة والبساطة وسهولة الفهم والتلقي. حرص حمدين صباحي في خطابه علي الجمع بين العقلانية والتدين بالمعني الذي يعرفه ويمارسه المصريون في حياتهم, والمزاوجة بين الثقة في المستقبل, وتحقيق أهداف ومطالب الثورة, كان خطابه لسان حال البسطاء من المصريين وتجسيدا لتطلعاتهم في اختيار جديد. بهذا المعني فإن خطاب حمدين صباحي خرج من أعماق الثورة وعبر عن مطالبها ببساطة ونقاء واضحين. يبقي بعد ذلك أن قراءة نتائج الانتخابات الرئاسية قد تذهب إلي القول بأن القوة السياسية الوحيدة المنظمة في البلاد ألا وهي جماعة' الإخوان المسلمين' وحزب الحرية والعدالة قد عوقبت مرتين الأولي عندما لم تحصل علي الفوز بمقعد الرئاسة من الجولة الأولي, وعندما فقدت كتلة تصويتية كبيرة تخلت عنها بسبب ابتعادها عن الثورة والثوار وتفرغها لالتهام ما بقي من مؤسسات الدولة, أما المرة الثانية فهذه القوة أصبحت بموجب نتائج الانتخابات الرسمية مضطرة كرها أو طوعا للحصول علي تأييد الكتلة الانتخابية الثالثة الثورية والمدنية إذا أرادت الوصول إلي الرئاسة. من الممكن إذا ما أحسن إدارة هذا الأمر أن تكون هذه الكتلة الثالثة ضابطا لإيقاع' الإخوان المسلمين' وتطويع أجندتهم لمطالب الثورة المصرية في الدولة المدنية والدستور التوافقي والعدالة الاجتماعية. وأيا كان الأمر فإن التاريخ لن يعود إلي الوراء أبدا ولن يكون بمقدور جماعة واحدة أو فصيل واحد مهما تكن قوته التنظيمية والمالية أن يستحوذ علي مقاليد الدولة والبلاد والعباد, خاصة بعد هذه النتائج وظهور الكتلة الثورية المؤثرة وقدرتها علي تنظيم نفسها في أطر ومنظور يتجاوز الحزبية الضيقة والعوائق الإيديولوجية ليمثل تيارا كبيرا عريضا يعبر عن الجماعة الوطنية ويستلهم تقاليد وقيم وأهداف الحركة الوطنية المصرية في حلقاتها التاريخية المتتابعة ويتمكن من التواصل مع التجربة التاريخية لمصر الحديثة للتقدم صوب العدالة والديموقراطية والحرية, وتلك مهمة وإن كانت كبيرة إلا أن ظهورها في هذا التوقيت بالذات إنما يعني إمكانية النهوض بها بل والنجاح في أدائها. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد