لا أعرف لماذا تذكرته الايام الماضية رغم رحيله من شهور كثيرة الآن ؟! هو سمير .. كما يحب ان ننادى عليه أو كما أطلق على نفسه .. وفي البطاقة "سمير عبد الخالق" … مرّ ك "النسمة " بيننا في الجمهورية ، وبالتحديد في العدد الأسبوعي .. كان يأتى كالطيف يجلس ولا تشعر به ، ويمشي دون أن تشعر به … والمفأجاة تكون عندما تتحدث معه .. فيض من المشاعر والرقة والإنسانية فيلسوف يمسك بريشته ليغوص بها فى الحياة وفي وجوه المشاهير ليحتل قمة من يرسم فن " البورتريه" " .. كان الوجه الإنسانى عنده هو عالمه الأثير الذي يخترق من خلاله المعابر السرية داخل الشخصية . العينان يراهما سمير الطريق الملكي للدخول والاختراق … لمعة العينان لها دلالة … لونهما له معنى … النظرة لها إيحاء… والحواجب تدل كثافتها على معان لا يعرفها إلا سمير" " . الأنف المدببة لا يفهم إشارتها ودلالتها إلا هو .. الأنف الشامخة لا يعرف سرّها إلا هو .. أما المدببة فلها حكاية عنده .. والمعكوفة لا تفصح بمدلولها إلا له والصغيرة تجدها "نبقة " فى الواقع ومفلطحة عنده ، لأنه كشف سر صاحبها الذى يخفيه عنا لكن ريشة سمير كفيلة بفضحه الابتسامة يفهمها سمير … الساخرة والصفراء لا يعرف لغتها إلا سمير . أما القهقهة فيعرف سمير ما يخفيه خلفها صاحبها من حزن دفين كجبال الثلج … أم فرحة وهمية يصدرها صاحبها ليضلل حساده … أم لحظة بهجة حقيقية ..! كل الأسرار عنده .. حتى كثافة الشعر..وحده يملك مفاتيح الشخصيات من خلال تعابير الوجه ومكوناته أو ندرته .. تسريحته… ونعكشته .. ومعنى فرار بعض الشعيرات المتناثرة من آثار أصحابها ، ولونها سوداء كانت … أو بيضاء … سمير وحده القادر على الغوص في عالمها ليفضحها بريشته …. وهكذا فن البورتريه عنده .. هو عالم سمير الأثير الذي جعله يقف بشموخ وحده متفردا على قمته … ومن البورتريه إلى الكاريكاتير .. كنت اضبطه أحيانا وهو يضحك وحده … أتأمله من بعيد أراه وهو يتعامل مع شخصياته الكاريكاترية بشكل حقيقى من دم ولحم ، تجرى أمامه ، ويجرى وراءها يحايلها ويداعبها حتى يعزمها على كرسى عرشه .. أقصد لوحته يرسمها بحب ولا يستطيع كراهيتها مهما فعلت .. يعيش معها .. ويمشي بينها .. ويحكي لها … وأحيانا تقاسمه كوب الشاى… أو فنجان القهوة … وحتى سندوتش الفول .. والكاريكاتير لا ينفصل عن حياته ، بل هو كل حياته ، له يعيش ، وبدونه مات لا تجده إلا باسما حتى في أحلك الظروف .. كان يتغلب على المواقف الصعبة بابتسامته وسخريته ليصنع منها موقفا كوميديا … يحاول أن يضحك على الحياة حتى لا تهزمه وكان ينصحنا بذلك كنت كثيرا أفعل ما يفعله معه البعض نستلف سخريته وابتسامته وكثيرا ما كنا نخدعه .. نعِده بردّها لكننا نحمرق ونطمع فيها ونسرقها ونهرب من أمامه لنتركه وحده بعد أن سرقنا ضحكته … يضحك على فعلتنا ويمسك ريشته ليعيد غزل سخرية جديدة أكثر سخونة مما طمعنا نحن فيها وهربنا بها !! نعود إليه معترفين بذنبنا ، فيغفر لنا ويمنحنا نكتة جديدة أو ضحكة متجددة ، نستدعيها كل حين فى وقت العبوس !! ذات يوم كنت أركب بجواره فى سيارته " المتهالكة " التي كانت وحدها بمثابة كاريكاتير يمشي على الأرض ، ينادى الجميع أن يضحك منها أو عليها … وكان سمير يرد عليهم بضحكة لو وزعت على السائرين لكفتهم وزادت كراسي السيارة الداخلية لا يبقى منها إلا بعض الأثار التي توحى بأنه في زمن ما كانت هنا كراسي ..!! مغطاه بالجرائد والمجلات القديمة والجديدة ورسوم الكاريكاتير حوائطها متهالكة ، أبوابها لا تنغلق إلا بالشخط والرزع دهانها يشيرأنها كانت ذات يوم لها لون ، لكن اتحدى أي أحد على سطح البسيطة أن يعرف اللون الأصلي لها .. المهم أنه في إحدى إشارات وسط القاهرة أوقفه أحد ضباط المرور قائلا : إيه يا أستاذ دي عربية دى ولا إيه ..! فرد سمير بابتسامته المعروفة : - اسألها ؟! - فتجهم وجه الضابط قائلا : - لو سمحت أديني الرخصة ؟ - فضحك سمير وقهقهه قائلا : - – ألا تعرفني .. أنا سمير فتعجب الضابط ومسك أعصابه قائلا: -سمير مين يا أستاذ ؟! رد سمير بضحكة مجلجلة : -سمير يا حضرة الضابط بالذمة متعرفش سمير ؟! حاول الضابط أن يمسك أعصابه أكثر ..قائلا : لو سمحت أنا معرفش سمير ده !! رد رسامنا الساخر: - ياعم سمير.. رسام الجمهورية ياراجل !! ومد يده إلى الكنبة الخلفية للسيارة المغطاة بمئات الجرائد والمجلات وتناول إحدى الجرائد القديمة التي تتزين بأحد رسومه وناولها للضابط قائلا : هذه هي الرخصة .. مش كفاية ولا إيه ؟! تناولها الضابط وابتسم بعد أن قرأ الكاريكاتير .. قائلا : - أحلى رخصة يا أستاذ ..!! واردف الضابط قائلا: بس نصيحة لوجه الله حط السيارة على أي رصيف مهجور ومعاها 10جنيهات .!! رد سمير: - للأسف حيأخذوا العشرة جنيهات وسيتركوها لتعود لي وحدها علشان هى عارفة طريقى حتى لو كنت فى الهند ..! واستكمل كلامه ساخرا : - حين تقابلني مرة أخرى ، أرجوك لا تسالني مرة أخرى عن الرخصة .. ! انصرفنا ونحن نقهقه والضابط يقهقه ويخبط يد على يد ، وسمير يقول لى ولسيارته : - قال عايز رخصة قال !! وتمضى السنوات كأنها طيف … نتقاسم معه الضحكة فى العدد الأسبوعى لجريدة الجمهورية ومع رسامنا "محى أحمد على "، الراحل أيضا !! حتى كانت الشهور الماضية قبل رحيله انكسر سمير من الداخل وتشظى وجدانه وأصبحت الضحكة والسخرية من آثار ما قبل التاريخ بعد فقدان ابنه الأصغر في حادث مأساوي فى أسانسير عمارته .. أصبح سمير شخصا آخر، الابتسامة لا تعرف طريقها ، بل أقول تهشمت الابتسامة على وجهه ، وتناثرت شعرات ريشته ولم تعد قادرة على الابتسام ، بل لم يبقى منها شعرة واحدة . وعندما وجد سمير نفسه في هذا الطريق الغريب عليه وعلينا ، قرر أن ينسحب بهدوء ، كما كان يعيش بيننا .. انسحب لأنه شعر أن ريشته قد نتفت شعيراتها" " ، وأن قلبه لم يعد قادرا على اضحاكنا بعد إن جف بئر الضحك للأبد بموت صغيره ، ويأه من الحياة !!! قرر أن يبكي وحده وينزف آلما بمفرده بعد أن كان يفيض سخرية علينا وعلى الحياة وفجأة انصرف وحيدا عنا … وبدون استئذان لا أعرف لماذا تذكرت سمير الآن ؟! الله يرحمك يا عم سمير..!!