عانت الآثار المصرية، وما تزال، صنوف إهمال شتى، رغم قيمة الحضارة التي ربما لا يدركها بشر قدر إدراك المصري لها، فإن الآثار المصرية ظلت سنوات رهينة الإهمال، حتى بدا أول الغيث في مشروع انطلق في أعقاب زلزال عام 1992، هو مشروع «القاهرة التاريخية»، الذي حاول إنقاذ الوجه التاريخي للقاهرة والجيزة، لاسيما بعد أن أوشك قرابة 900 أثر إسلامي على الانهيار. ورغم أهمية المشروع، فإنه توقف بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ثم عاد إلى النور في يوليو عام 2012. «البديل» التقت مع محمد عبد العزيز – مدير الآثار الإسلامية والقبطية بالقاهرة والجيزة، الذي عين مؤخرا مديرا لمشروع «القاهرة التاريخية»، وكان هذا الحوار حول المشروع وأهدافه وميزانيته وخطوات تنفيذه. ** متى بدأ مشروع «القاهرة التاريخية» ومتى كلفت بإدارته؟ بدأت فكرة المشروع بعد زلزال 1992 الذي أضر بالعديد من الآثار التاريخية في القاهرة، وبدأت إدارة المشروع بإجراء دراسات وأبحاث لحصر المواقع الأثرية المتضررة، التي بلغ عددها آنذاك 143 موقعا. كنت مديرا للآثار الإسلامية بالقاهرة والجيزة، وكان المشروع متوقف تماما بعد ثورة 25 يناير بسبب قلة التمويل والمشاكل العديدة التي مثلت عائقا أمام استمراره، وتم تكليفي بإدارة المشروع في يوليو 2012. ** ما مراحل عمل المشروع من تطوير القاهرة التاريخية ؟ تحدد للمشروع ثلاثة أهداف، أولها ترميم المواقع ال 143 عبر مراحل أربع، تتضمن الأولى ترميم 46 أثرا، والثانية 25 أثرا، والثالثة 43، والرابعة 29. والهدف الثاني تطوير المنطقة المحيطة بتلك المواقع، أما الهدف الثالث فهو إعادة توظيف الآثار بعد ترميمها. ** ما الذي تم إنجازه حتى الآن؟ قبل ثورة 25 يناير انتهينا من ترميم المرحلتين الأولى والثانية التي شملت 46 موقعا و5 مشروعات فقط من أصل 43 مشروع ترميم بالمرحلة الثالثة، كما انتهينا من الدراسات والأبحاث الخاصة بالمرحلة الرابعة من ترميم المشروع التي تتضمن 27 مشروع ترميم، لكن الأمر يزداد تعقيدا وبطئا لعدة أسباب، فضلا عن توقف العمل تماما بعد الثورة. ** ما المشكلات التي تسببت في توقف المشروع؟ المشروع يواجه تحديات صعبة جدا، لكن المشكلات تفاقمت جدا بعد الثورة، وبعد تكليفي بإدارته سعيت لحل بعض منها بالتعاون مع الوزارة وتحت إشراف الدكتور محمد إبراهيم – وزير الآثار. وهناك مخالفات في العقود المبرمة، وهناك مشكلات بشأن المدة الزمنية المحددة للانتهاء من المشروع، والتي انتهت بالفعل قبل تكليفي، لكننا عملنا على إطالة المدة الزمنية بحيث يمكننا ترميم الآثار وتطويرها بشكل دقيق والخروج بالمشروع بأفضل صورة. أما المشكلة الأكبر فهي مشكلة التمويل، التي تسببت في تعطيل ثم توقف المشروع تماما، لعدم وجود ميزانية كافية تتيح الانتهاء من أعمال المشروع في الفترة الزمنية المحددة. وقد حاولنا التغلب على الأزمة التمويلية، بالحصول على بعض المنح الخارجية سواء من وزارة الآثار أو من وزارة التعاون الدولي، فتم تخصيص 9 مليون جنيه لمشروع مرافق الجمالية من وزارة التعاون الدولي، كما ساهم صندوق الإنماء العربي الكويتي بمبلغ 7.5 مليون جنيه للتطوير الحضري لمنطقة الجمالية. بالإضافة إلى أنه تم توقيع بروتوكول تعاون بين وزارة الإسكان ووزارة الآثار لتوفير المبالغ المطلوبة لترميم وكالة قايتباي، واستكمال مشروع السور الشمالي للقاهرة التاريخية بالقرب من باب النصر، وساهمت وزارة السياحة ب 3 ملايين جنية لمشروع رفع كفاءة شارع المعز. وفى 2011 أمدتنا اليونسكو ب 2 مليون دولار من الحساب الخاص بمصر لديها لمشروع الإحياء العمراني للقاهرة التاريخية، عن طريق وضع خريطة للقاهرة التاريخية واضحة الحدود والمعالم، ووضع خطة لإدارة موقع التراث العالمي للمحافظة عليه وتنميته اجتماعيا واقتصاديا. وبالإضافة إلى هذا الكم من المشكلات، هناك أيضا مشكلة المياه الجوفية المنحدرة من جبل المقطم ومنشية ناصر ولا نستطيع سحبها من أسفل المشاريع لخطورة تلك العملية على بنيان الأثر وحالته. وهناك مشكلة تعديات الأهالي على الآثار الإسلامية، والتي تزايدت حدة وجرأة بعد ثورة يناير، وهناك أيضا مشكلة انتشار القمامة بشكل كبير بمحيط المواقع الأثرية. ** ماذا عن إغلاق شارع المعز أمام حركة السيارات؟ شارع المعز تكلف ترميمه 55 مليون جنيه، في أعقاب ثورة يناير 2011، وفي ظل الانفلات الأمني الذي شهدته البلاد تم تدمير المرحلة الأولى منه بالكامل من أرضيات وواجهات، وسرقت الكشافات الكهربائية التي وضعتها شركة القاهرة للصوت والضوء، كما تم تخريب البوابات الإلكترونية، وكان من الضروري رفع كفاءة الشارع وإعادة إحيائه مرة أخرى، وهو ما ساهمت فيه وزارة السياحة، وانتهينا الآن من إعادة تأهيل رفارف البازلت وواجهات المحلات والدهانات، وسيتم تركيب البوابات الإلكترونية خلال الشهر الحالي، وستعيد شركة الصوت والضوء تركيب كشافات الإضاءة، أما عن إغلاق شارع المعز مرة أخرى أمام حركة السيارات، فالهدف منه أن يصبح أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم. ** كم بلغت الميزانية الإجمالية للمشروع وكم أنفق منها حتى الآن؟ قدرت ميزانية الترميم فقط ب 800 مليون جنيه، صرف منها 280 مليون لبداية العمل في المشروع، ثم أضيفت أعمال أخرى إلى الترميم، استدعت رفع الميزانية، مثل إحياء ورفع كفاءة المناطق المحيطة ببعض الآثار كشارع المعز الذي تقدر تكلفته ب 55 مليون جنيه، وشارع الجمالية المقدرة تكلفته ب 56 مليون جنيه. ويبلغ إجمالي ما تم صرفه حتى الآن 530 مليون جنيه، ومتوقع زيادة التكاليف والميزانية لتتجاوز المليار، لإضافة مشروعات جديدة، حيث أضيف لمواقع المشروع الأصلي 16 موقعا أثريا، منهم متحف مجوهرات والمتحف القومي بالإسكندرية وأوبرا سيد درويش، وأوبرا دمنهور ومتحفي محمد على بشبرا والمنيل. ** كيف أضر ترميم وتطوير مساجد «الأوقاف» بتمويل مشروع «القاهرة التاريخية»؟ للأسف، أخطأت وزارة الآثار بترميمها المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، والمدرجة بقائمة مشروع القاهرة التاريخية. لأن المادة 30 من قانون حماية الآثار، نصت على أن الملكيات الخاصة التي تمتلكها وزارات أخرى غير المجلس الأعلى للآثار مثل المساجد التاريخية التابعة لوزارة الأوقاف، تتكلف الأخيرة بأعمال ترميمها وليس وزارة الآثار. وتداركًا للموقف وحتى تسترد وزارة الآثار ما تم صرفه على المساجد التابعة للأوقاف، أحيل الأمر إلى النيابة التي قررت رد الأوقاف إجمالي ما أنفق من قبل الآثار، وتم تشكيل لجنة لدراسة تكاليف ما تم من أعمال واجبة الرد إلى وزارة الآثار، وخصصت وزارة الأوقاف 10 مليون جنيه كدفعة أولى لترميم هذه المشروعات، وجارى توفير المبالغ اللازمة لباقي المشروعات التابعة لها. ** القاهرة التاريخية تقع وسط مناطق شعبية لا يمكن للأمن وحده السيطرة عليها بعد تطويرها، فكيف ستتم المحافظة عليها بعد التطوير وإنفاق كل هذه الأموال عليها؟ حماية الآثار والحفاظ عليها مسئولية كل المصريين، خاصة أن مصر تمتلك أكبر تراث عالمي للحضارة، بالإضافة إلى تعاون كل أجهزة الدولة لحمايتها، فالقاهرة التاريخية تقع وسط المناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية المرتفعة وانتشار الجهل بالآثار وتدنى مستوى التعليم والفقر, الأمر الذي يتطلب توعية الأهالي بأهمية المشروع والحفاظ على المواقع. وأطلقنا – لهذا الهدف – مجموعة برامج لتوعية الأهالي، بالتعاون مع اليونسكو ومنظمات المجتمع المدني، وتم تنفيذ مشروعين، الأول لتوعية طلاب المدارس في تلك المناطق بعنوان «المرشد الحضاري» ويعتمد على مجموعة من شباب الأثريين تلقى محاضرات على طلبة المدارس لشرح المنطقة الأثرية وأهميتها لتوعيتهم بقيمتها، وتنظيم زيارات مجانية لهذه المواقع وتعريفهم بأصل تسمية المناطق، مثل مناطق الخيامية والنحاسين. ** كيف يتم التسويق للمشروع وما العائد المتوقع منه؟ هدفنا الحالي ليس العائد المادي، وإنما الحفاظ على تراث الحضارة الإسلامية، وبعد ذلك يأتي الهدف الثاني وهو جعل هذه الآثار موردا من موارد الاستثمار، عن طريق استغلال مجموعة الوكالات التجارية الأثرية، البالغ عددها 33 وكالة في القاهرة التاريخية، في إطار إستراتيجية تهدف لاستغلال بعض المقار الأثرية بوظائف تتناسب بالفعل مع الطبيعة التي أنشئت من أجلها. ونعد الآن لطرح مناقصات إنشاء بازارات للحرف التقليدية في الدور الأرضي للاستفادة منها سياحيا واقتصاديا واستخدام الأدوار العليا كفنادق تراثية وليست سياحية، وفى الوقت نفسه يتم إعداد مبيت للأجانب والمصريين من عشاق الإقامة فى المناطق التاريخية, وهذه النماذج تنتشر في العديد من الدول، مثل لبنان, تركيا, المغرب وتونس، خصوصا أن المواثيق الدولية للحفاظ على الآثار تنادى بإعادة توظيفها لحمايتها والحفاظ عليها. ** متى يتم الانتهاء من مشروع القاهرة التاريخية؟ لا نستطيع تحديد موعد دقيق حاليا، نظرا لاستمرار مشكلة التمويل التي تؤثر بشكل أساسي في استمرار وتوقف بعض المشروعات، بالإضافة إلى المشكلات الأخرى التي تتجدد وتتطلب مبالغ مالية ضخمة.