خسرنا كل شيء، فالضربة موجعة، لأنها في سويداء القلب، وأحمر الخسائر يلون كل المؤشرات، فليس بعد خسارة أنفسنا خسارة. بعد الذي جرى في ماسبيرو، الموقع والشاشة، لا خشية من الاعتراف بأننا بضربة واحدة، ليست جوية لحسن الحظ ، خسرنا كل شيء. وطننا الذي صنعاه في أحلامنا في يناير أكلناه في أكتوبر، والشهور التسعة كانت تخدعنا بأن الولادة ستكون طبيعية، وأنه لا خوف من آلام معتادة حين تخرج روح من روح، غير أن الحقيقة الصادمة أن أرواحنا جميعا تزهق على مذابح “الحماية” التي بشرنا بها من هم في الداخل ويلوح بها ذئاب الخارج. تبدلت المواقع واختلطت الرايات، وكل أعدائنا الآن “إّيد واحدة” تصفع حلمنا المرة تلو الأخرى، والقادة يعلقون خطاياهم على مشاجب المندسين والغرباء والمجهولين المعلومين بالضرورة. تلمع السيوف في عز النهار قاصدة رقبة الوطن، ومدافع حماته باضت على مواسيرها الحمائم، إلا إذا تعرت صدورنا وجنحنا للسلم، فهي حينئذ تجيد الكر والفر فوق خرائط أجسادنا تدهس الأماني وتقطع رؤوسا لم يحن قطافها. المندسون والغرباء والمجهولون يتوسعون سياسة وإعلاما ويستردون الأرض حتى صار أبناء يناير فلولا يستوجبون العزل، بل والغدر، إن اقتضى الأمر. صرنا بلدا يقوده المجهولون ويرسم معالم طريقه الغرباء ويدفعه إلى طريق اللاعودة المندسون، وصناع القرار يفضلون الشعوذة، لذلك يضربون جسد الوطن حتى يطردوا “العفاريت” فيلقون به على حافة الموت وتبقى “العفاريت” تخرج لسانها لنا ولمن يصنعون القرار. يا سادة، وطن يناير الذي صنعه الصغار أمام العالم يقتسمه الكبار في الغرف المغلقة، والهلال والصليب اللذين خرجا من رحم التحرير ملتصقين يرقدان استعدادا لفصلهما على طاولة جراح بارد يخدرنا ويطالبنا بأن نعد الأيام والليالي، وما بين الوعي وبداية فقدانه، يكفر نصفنا بقيامة المسيح، ويتوهم النصف الآخر أننا ما قتلنا مبارك وما صلبناه ولكن شبِه لنا. وطننا الموعود بالأمن ينزف، وخير أجناده في رباط أمام ماسبيرو فقط يستبدلون عدسات الكاميرات بمناظير الحرب على الأعداء الحقيقيين في الداخل والخارج. والكاميرات يا سادة تربت على الكذب، بل تنزع ملابسها قطعة تلو الأخرى ثم تفتح أرجلها للكلمات الشبقة والمراهقة وتلد الإعلام العاهر. بالغفلة والعهر والتعامي، يضيع مكنا كل شيء، وفي المقدمة الوطن نفسه، ويتعافى العهد البائد في المركز الطبي العالمي وطرة وتجمعات أعضاء “المنحل”. وإذا عاد هذا العهد، فلن يعود راقدا على سرير، بل رافعا علامة نصره التي بانت في القفص. ولن يطيب له المقام إلا إذا تمزق جسد عاش أبناؤه في التحرير بتوادهم وتعاطفهم وتراحمهم، ثم انقسمت أعضاؤه إلى قسم يشتكي وآخر يتداعى له بالسهر والحمى. وبين الشكوى، والسهر والحمى، يكتمل شفاء النظام ويعود من كلف ليسترد “الأمانة” ممن كلفه بها، والله الموفق والمستعان.