من آونة لأخرى تقع أحداث و تطرح تصريحات تعيد للأذهان إحدى أهم القضايا القديمة المثارة حول الفنان العربي الا وهي مصداقيته. كانت هذه القضية كثيرا ما تطفو على السطح فتلقى حظا ضئيلا من النقاش لتعود مجددا إلى غياهب النسيان ، حتى يصدر تصريح او يخرج عمل حديث للفنان يتناقض جذريا مع عمل آخر قدمه مسبقا من حيث الهدف والرؤية فيثار التساؤل من جديد حول مصداقية الفنان ومدى قناعاته وكان الرد على هذه الجزئية دوما يتراوح ما بين نقطتين : الأولي وهي الأقرب إلي الواقع أن الفنان العربي نادرا ما يحمل قناعات فكرية او سياسية ، وهو يمارس عمله باحترافية تامة يغض فيها النظر عما يطرحه العمل من قضايا او يناقشه من موضوعات . واما النقطة الثانية فهي كانت ترتكز الى اساس واه من ضرورة ان يجسد الفنان كافة الشخصيات الانسانية وهو حق يراد به باطل ويخلط الاوراق اذ ان تجسيد مختلف الشخصيات لا غبار عليه ، بل هو امر حتمي وانما مدار المصداقيه في هذا الشأن يقع على مغزى ورسالة العمل الفني في مجمله وليس طبيعة أو نوع الشخصية المجسدة. كانت مصداقية الفنان العربي وبالأخص الممثل على المحك في السنوات الأخيرة وذلك لمواقف عدة ولعل أشدها سوءا ما ورد نصا على لسان الممثلة الناشئة (منى هلا) التي جسدت شخصية المجرمة ليندي انجلند- وهي المجندة الامريكية التي ظهرت بصور سجن ابوغريب بالعراق – بفيلم ليلة البيبي دول ، اذ قالت الممثلة عقب تجسيدها لهذا الدور الفاضح للوحشية الامريكية في السجون العراقية ، وقبل ان يخرج العمل للنور انها تعاطفت بشدة مع شخصية ليندي انجلند !!!!!! وانها كانت شغوفة بقصة حياتها، وآلامها التي عانتها قبل التحاقها بالجيش! وبسؤالها عن رايها فيما ارتكبته المجندة الأمريكية المريضة بحق الأسرى العراقيين أجابت الممثلة الصاعدة بقولها (انها حاجة تضايق) لكنها تلتمس العذر ل ليندي انجلند لما أحاط بها من ظروف وأنها لم تستطع أن تكرهها مطلقا. إذن فالعمل الفني الذي حشد له النجوم ورصدت له الملايين لا يؤمن القائمون عليه ذاتهم برسالته! بل فقد مصداقيته بدوره إزاء تصريحاتها. ومن منى هلا الي النجم السوري(تيم حسن) الذي أدى تجسيداً رائعا لشخص شاعر العروبة العظيم نزار قباني علامة الفكر المتحرر والثوري في الأدب العربي وعلى لسان الممثل نفسه جرت عبارة (ان أي حكم لمصر سوف يكون افضل من حكم فاروق) ابان حلقة قيام الثورة المصرية بأحداث مسلسل (نزار قباني) . غير ان (تيم حسن) نفسه بعد رائعة نزار قباني بعامين سرعان ما جسد شخصية فاروق بإعتبار الأخير رمزا للحرية و للازدهار وزهد الحاكمين في العرش. والممثل عمرو واكد الذي أبكى الملايين بالمشهد الإنساني الرائع لشخصية المجاهد الفلسطيني الذي يفدي قضيته ووطنه بروحه بفيلم (اصحاب ولابيزنس ) صدم الملايين أيضا بمشاركتة لممثل اسرائيلي بعمل تلفزيوني للنيل من شخص الرئيس صدام حسين .وسبق هؤلاء جميعا في الماضي الروائي على سالم صاحب رائعة (أغنية على الممر) بإعتبارها ملحمة شعبية في فترة حرب الاستنزاف ، فإذ به يكون لا حقا على رأس قائمة المطبعين من المثقفين العرب. ولا تتوقف المصداقية عن حد المغزى السياسي او التاريخي للعمل الفني وانما تتعداها لما يقدمه الممثل من رؤى معلنة للجمهور بخصوص القضايا المجتمعية وما قد يغاير هذه الرؤى في اعماله الفنية وليس أدل على ذلك من فنانات الحجاب فبعضهن اتجهن للاعتزال والأعمال والبرامج الدينية باعتبارهن مصداقية للتوبة وفجأة انقلبت الآية بخلع الحجاب والاتجاه للمشاهد الساخنة ،او التمسك بالحجاب مع ارتداء باروكة الشعر أثناء التمثيل في محاولة يائسة للعودة الي الشاشة وبريق الشهرة. وفي حالات متعددة استبق المتفرج والناقد العمل برفض الفنان قبل تصويره لما قد يمس مصداقية العمل من مواقف الفنان وتاريخه ، فرفض الكثير من النقاد مشاركة الراحلة سعاد حسني بفيلم فجر الاسلام لما جسدته قبلها من ادوار الاغراء الامر الذي حرمها من هذه المشاركة ومؤخرا ثار قوميون عرب على مشروع مسلسل جديد عن الزعيم الخالد جمال عبدالناصر يجسده جمال آخر هو الفنان السوري جمال سليمان فرغم التشابه الكبير بين الرجلين من حيث القامة الفارعة ووضوح الملامح القيادية الا ان مواقف سليمان ضد نظام البعث السوري والتي لم تزد عن تصريحات مقتضبه مع بدء الاحتجاجات في سوريا جعلت هذا التشابه –بنظرهم – اضافه الي موهبة الرجل سببا ضحلا لا يرقى ان يمكنه من تجسيد شخصية الرمز العروبي الكبير. بطبيعة الحال فإن الفنان بشر هو كالآخرين تنازعه الرغبات والأهواء وتغير المواقف ، غير انه يختلف عن باقي البشر فيما يجسده من مصداقية بأدائه للعمل الفني خاصة إذا ما نجح في هذا التجسيد فأصبح بالنسبة للمشاهد قيمة ورمزا وتعبير عن معنى العمل الفني ، أما اذا ما استشعر المتلقي ان القائم على العمل لا يعدو دوره دور الموظف المنفذ دونما إيمان بما يجسد فلا غرو إذا هو بدوره فقد الإيمان بالعمل وقيمته. انتهي من كافة النقاط والحالات التي ذكرتها الي ضرورة أن تعتمد المؤسسات الأكاديمية الفنية منهجا لتثقيف الفنان وعلى الأخص الممثل يعلمه بحجم تأثير دوره في المتلقى ومنظومة قيمه وقناعاته فيضبط تصريحاته ومواقفه ويراعي ألا تتناقض الأهداف من أعماله الفنية وأن يدرك أن الاحترافيه لا تتناقض ومصداقية الفنان بل تكملها وتتممها.