في مساء الأربعاء الماضي، تجمع آلاف المتظاهرين في ميدان طلعت حرب ثم تحركوا في مسيرة طافت شوارع وسط البلد ووصلت إلى مقر مجلس الشورى. لم يحدث بين هذه المظاهرة وبين رجال الشرطة أي شكل من أشكال الاحتكاك. ببساطة، لأنه لم يكن ثمة أي من رجال الشرطة بقربها. لم يتم تدمير أي منشآت أو الاعتداء على أي من المواطنين، لم تستخدم أي أسلحة ولم يتم ترويع أحد، ولم يشتك أحد من تعطيل المرور أو وسائل المواصلات. استخدم بعض الشباب الشماريخ ولكن هذا لم يؤدي إلى أي أذى ولم يزعج أحدا. في المجمل لقد مرت الأمسية الاحتجاجية بسلام. تحدى المتظاهرون قانون تنظيم الحق في التظاهر وطالبوا بإسقاطه، ولم يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار أو المس بالأمن القومي للبلاد. ربما هزت هتافاتهم شوارع وسط البلد، ولكن هذا مجرد تعبير مجازي. المؤكد أن هتافاتهم ومسيرتهم قد هزت قانون قمع الحق في التظاهر، وهذا ليس مجرد تعبير مجازي. وزارة الداخلية نفسها قدمت الدليل على اهتزاز قانونها الذي أعدته وأصرت على تمريره، فهي قبل هذه المظاهرة بساعات قليلة أعلنت أن أحدهم قد طلب تصريحا بها وأن الوزارة وافقت على منحه هذا التصريح! هذا مجرد تضليل لحفظ ماء الوجه. فلو أن أحدا قد تقدم بإخطار للوزارة بهذه المظاهرة لما أمكنها قانونا تسلم الإخطار لمخالفته نص القانون الذي يلزم بتقديم الإخطار قبل موعد المظاهرة بثلاثة أيام. ولو أن الإخطار كان قانونيا فقد خالف المتظاهرون القانون بأن حولوا تظاهرتهم إلى مسيرة لم يحدد مسارها في الإخطار المزعوم. الداخلية نفسها قد خالفت القانون الذي يلزمها بتأمين المظاهرة ولكن أحدا من أفرادها لم يتواجد في المكان. المحصلة أن القانون سيئ السمعة لم يحترمه في هذه الليلة أحد. قبل أقل من 24 ساعة وفي ميدان طلعت حرب نفسه، كان المشهد مختلفا. ففي مقابل مشهد التظاهر السلمي والهتافات كانت ثمة حرب شوارع بين مئات المتظاهرين الذين تجمعوا في الميدان وبين قوات الأمن التي حاولت فض مظاهرتهم التي تجمعت احتجاجا على فض الأمن لتظاهرة قبل ساعات أمام مجلس الشورى، وعلى فضها أيضا لتظاهرة سابقة في نفس اليوم أمام نقابة الصحفيين. في يوم الثلاثاء هذا كانت الداخلية تحاول إنفاذ قانونها. والنتيجة مشاهد متتابعة من الاعتداء والضرب والسحل للمئات واعتقال عشرات المتظاهرين. والنتيجة أيضا سلسلة طويلة من مظاهر خرق الداخلية لقوانين أخرى. فهي أولا وبعد حفلات الضرب والتحرش بالنساء والرجال على السواء أثناء القبض عليهم نقلت المعتقلين خارج دائرة القسم الذي تم القبض عليهم فيه، وفي قسمي أول وثالت القاهرة الجديدة بدأ ضباط الداخلية في فرز المعتقلين لتحديد من يمكن الاحتفاظ به ومن يحسن بهم إطلاق سراحه، وعندما قرروا إطلاق سراح النساء نقلوهم في حفلة ضرب وسحل وتحرش جديدة إلى سيارة ترحيلات طافت بهم الطرق الصحراوية المحيطة بالقاهرة قبل أن يتركوا في منطقة نائية غير مأهولة. وفي النهاية اكتفت الداخلية بتقديم 24 متظاهر للنيابة التي انتقلت إلى قسم الشرطة لتباشر التحقيقات، ولتصدر قرارا بحبسهم على ذمة اتهامات لا ظل لها من الواقع. أي المشاهد يمثل الفوضى وأيها يمثل الاستقرار؟ أيها يمثل سيادة القانون وأيها يمثل إهداره؟ يقول لنا الخبراء الأمنيون الذين تعج بهم شاشات القنوات التليفزيونية أن قانون قمع الحق في التظاهر ضروري لتحقيق الاستقرار وإن احترامه ضروري للحفاظ على هيبة القانون وسيادته. ولكن مشاهد الواقع على الأرض تكذبهم. فعندما أنفذت وزارة الداخلية قانونها خرقته منذ اللحظة الأولى. فالقانون القمعي نفسه لا ينص مطلقا على حق قوات الأمن في فض مظاهرة لمجرد أنها لم يتم إخطار الداخلية بها سابقا! ربما نسي معدو القانون ذلك أو تعمدوه ولكن النتيجة واحدة. عندما بادرت قوات الأمن إلى فض أي من مظاهرات يوم الثلاثاء كانت في الواقع تخرق القانون. أما ما تبع ذلك من اعتداء وتحرش وإهدار لما تنص عليه القوانين من إجراءات فلا يحتاج إلى مزيد من التوضيح. ولا حاجة لإيضاح أن مشاهد الضرب والسحل ومطاردة الناس في الشوارع وتبادل القذف بالطوب واستخدام القنابل المسيلة للدموع كل ذلك يروع المواطنين ويحيل الشارع إلى ساحة معركة فوضوية تتعرض سلامة من فيه من بشر وما يحيطه من منشآت للخطر. في هذه المشاهد المختلفة كان المتظاهرون هم أنفسهم، وكان سلوكهم في بداية مظاهراتهم واحدا. الذي اختلف هو سلوك قوات الأمن تجاههم. وباستثناء حالات قليلة لها ظروفها الخاصة فإننا طوال ما يقرب من ثلاثة أعوام قد شهدنا ذات المشاهد تتبدل بين المظاهرات السلمية التي تتم بسلام في غياب تام لقوات الأمن أو لمن يسمون بالمواطنين الشرفاء، وبين اشتباكات دامية عندما تظهر هذه القوات ومعاونوها المدنيون في المشهد ويمارسون هوايتهم في الضرب والسحل والاعتقال العشوائي وأحيانا في فقأ العيون والقتل. ورغم أن الحقيقة واضحة لأعين كل مراقب أمين، فلا يزال خطاب السلطة والمقربين منها ومنافقيها يحاول إيهام الجميع بان التظاهر السلمي هو ما يهدد الاستقرار وأن الداخلية ينبغي أن تحصل على الغطاء الشرعي لمواجهته بحزم. ذلك الحزم الذي يتمثل في خرق القوانين وتعريض حياة البشر وسلامتهم للخطر والذي ينتهي بتقديم العشرات للنيابة مصحوبين بقوائم من محفوظات التهم الوهمية. في المقابل شهدت أحياء مختلفة بالقاهرة وعدة مدن أخري في يوم الجمعة الماضي أحداث عنف واشتباكات صاحبها الاعتداء على بعض المقار الشرطية في إطار مظاهرات للإخوان المسلمين. هذه المظاهرات كانت الأعنف في بعض الأماكن منذ الأيام التالية لفض اعتصامي رابعة والنهضة. والواضح طبعا أن صدور قانون قمع الحق في التظاهر لم يحل بين الإخوان وبين تنظيم مظاهراتهم أو استخدام العنف فيها. ولا يمكن لهذا أن يثير لدينا أي قدر من الدهشة. فالإخوان لن يتوجهوا إلى وزارة الخارجية لإخطارها بنيتهم التظاهر، والمؤكد أن وزارة الداخلية لا تتوقع منهم ذلك. وبصفة عامة فإن من يريد ممارسة العنف تحت غطاء التظاهر السلمي لن يهتم بصدور قانون لتنظيم الحق فيه. والأهم من ذلك أن هذا القانون لم يضف أي جديد إلى القوانين القائمة بالفعل لمواجهة أي عنف يصدر عن مشاركين في تظاهرة أو تجمع ما، فكل أشكال العنف ضد الأفراد أو الممتلكات مجرم بالفعل في قانون العقوبات وغيره من القوانين. وتستخدم الداخلية بالفعل هذه القوانين في الاتهامات التي توجهها إلى من تلقى القبض عليه من ممارسي العنف من الإخوان في مظاهراتهم. فما وجه الحاجة إلى القانون الجديد إذن؟ يمكننا أن نجد مؤشرات لإجابة هذا السؤال فيما حدث مساء الخميس الماضي. فقد اقتحمت قوات الأمن منزل الناشط السياسي علاء عبد الفتاح وألقت القبض عليه متذرعة بأمر ضبط وإحضار أصدره النائب العام ضده بتهمة التحريض على التظاهر دون إخطار، وهي بالمناسبة تهمة لا وجود لها في قانون التظاهر أو غيره، علاء ليس الوحيد الذي صدر ضده أمر ضبط وإحضار بهذه التهمة على خلفية مظاهرة مجلس الشورى، أحمد ماهر المنسق السابق لحركة 6 إبريل صدر ضده الأمر ذاته ولكن لسبب ما لم يتم القبض عليه، ولكنه تقدم إلى النيابة ليمثل أمامها طواعية. وهو نفس ما أعلن علاء نيته القيام به، ولا يمكن الشك في مصداقيته في ذلك فقد سبق أن عاد من رحلة خارج البلاد وقام بتسليم نفسه إلى النائب العام للتحقيق معه في اتهامات وجهها له في عهد المجلس العسكري. قانون التظاهر هو إذن ذريعة لملاحقة النشطاء السياسيين المحسوبين على ثورة 25 يناير، واليوم بالفعل يقبع عدد منهم بالسجون على ذمة تحقيقات في اتهامات واهية كلها تعتمد على التظاهر غير المرخص به! ولا يهم مطلقا إن كان القبض على هؤلاء إنفاذا صحيحا لقانون التظاهر، فالحقيقة أنه ليس كذلك. فما يهم وزارة الداخلية هو إبراز ورقة القانون كمبرر لقبضها عليهم معتمدة على أن أحدا لن يحاول البحث في سلامة إجراءاتها، وذلك في ظل تعاون تام من قبل النيابة العامة. لماذا تسعى جهات بالدولة إلى ملاحقة المحسوبين على ثورة 25 يناير في وقت يبدو فيه أن اصطفاف هؤلاء إلى جانب النظام في مواجهة محاولات تنظيم الإخوان العودة إلى الحكم أمر بالغ الأهمية؟ هذا سؤال يحتاج إلى بحث ليس هذا مكانه، ولكن المؤكد أن قانون التظاهر الجديد إضافة إلى الإصرار على تمرير مادة في الدستور تبيح محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، مع العديد من ممارسات نظام 3 يوليو تعيد السيولة إلى الموقف السياسي وتجعل الأمل في استعادة الاستقرار أبعد مما كان عليه قبل شهور من الآن. والمؤكد أيضا أن مظاهر استغلال النيابة العامة والقضاء كأدوات في الصراع السياسي التي تزايدت بشكل ملحوظ مؤخرا تسهم في إهدار هيبة جهاز العدالة في مصر وتسقط الشعور العام بسيادة القانون، وهذا من أخطر ما يمكن أن ينال من الأمن القومي لأي بلد، فشعور المواطنين بالاطمئنان إلي عدالة القضاء هو أحد عوامل اعترافهم بسلطة الدولة وتفويضها لحل منازعاتهم. الأمر إذن لا يتعلق بقانون لتنظيم الحق في التظاهر وإنما يتعلق بسياسة النظام الحالي وإلى أي حد تمضي بنا إلى تحقيق الاستقرار وبناء دولة العدالة والقانون التي نتطلع إليها. فإذا كان القائمون على أمور البلاد اليوم جادون في تحقيق ما يعلنونه فربما آن لهم أن يراجعوا سياساتهم لأنها بلا شك تقودنا إلى العكس تماما مما يعلنون السعي إليه.