تمر اليوم الذكرى ال136 على ميلاد الشاعر والفيلسوف «محمد إقبال»، شاعر الإسلام الذي ترك ثروة ضخمة من علمه، وصلت إلى أكثر من 20 كتابًا في مجال الاقتصاد والسياسة والتربية والفلسفة والفكر، بالإضافة إلى بعض الكتابات المتفرقة وبعض الرسائل التي بعث بها إلى أصدقائه أو أمراء الدول، إلى جانب روائعه من الشعر. وتحتفي «البديل» بذكرى «إقبال»، الأعجمي ذو اللحن الحجازي، وتقرأ في محاضرة للدكتور محمد بن المختار الشنقيطي، الباحث الأدبي والمحلل السياسي الموريتاني، التي قدمها في أكتوبر 2010، بعد أن نشرها أغلبها في مقال تناول سيرة الشاعر وفلسفته، في نفس الوقت الذي استعد فيه لطرح كتابه «عز العبودية لله: تأملات في شعر وفلسفة محمد إقبال». بدأ «الشنقيطي» محاضرته بالتأكيد على مكانة «محمد إقبال» بين المفكرين والشعراء، مؤكدًا أنه لم يعش عمرًا طويلًا، لكنه كان مثالًا للإنسان الذي عاش عمرًا عريضًا، كما تذكر دعاء «ابن سيناء» لربه: "إني أسألك عمرًا عريضًا" وهو أشبه بما ناله الراحل. وأضاف أنه كان إلى جانب هذا العمل الفكري والنظري يحمل قضية، بالإضافة إلى أنه كان ناشطًا في الجمعيات الساعية إلى حفظ الوجود الإسلامي في الهند، وأول من دعا إلى دولة إسلامية خاصة بالمسلمين في شبه القارة الهندية، التي عرف مجتمعها بطبقيته؛ حماية لتراثهم وحضارتهم من الاندثار، وولدت هذه الدولة- دولة باكستان- بعد وفاته ب10 سنوات، ومازال شعبها يعترف ب«إقبال» أبًا روحيًا للدولة، وصاحب الفكرة التي أقنع بها السياسيين، ومنهم محمد علي جناح، الذي يعتبر أيضًا الأب السياسي لباكستان. وأوضح أن الراحل قدم رسالته للدكتوراه في جامعة ميونخ الألمانية، وكانت بعنوان "تطور الفكر الميتافيزيقي في بلاد فارس"، وأن قلبه كان في الشعر والفلسفة ثم السياسة، ولم يكن أبدًا في المحاماة أو القانون الذي درسه وتخرج منه، رغم أنه اشتغل فترة محاميًا، وكتب أكثر أشعاره باللغة الفارسية، وعن هذا قال في مقدمة ديوانه (الأسرار والرموز) إن "اللغة الأردية لا تتسع لمعانيها"، وأنه كتب بالفارسية لأن الأردية لا تتسع للمعاني التي يريد التعبير عنها. ترك «إقبال» لنا بحرًا من الأفكار والأشعار، بلغت حوالي 12 ألف بيتًا من الشعر في 9 دواوين، منها 7 آلاف بيت باللغة الفارسية، و5 آلاف بالأردية، كما أنه لم يكتب شعرًا باللغة العربية، لأنه لم يكن يملك ناصيتها، ولكنه كان يقرأ بها ويتذوقها ويحب الشعر العربي. ومن أشهر دواوينه التسعة: "جناح جبريل، رسالة المشرق، درب الكليم، زبور العجم، هدية الحجاز". وعن أعماله المترجمة إلى العربية، قال «الشنقيطي»: ترجمت كل أعماله الشعرية والفكرية إلى العربية، باستثناء "رسالته في الدكتوراه، وكان من أفضل الترجمات لدواوينه ترجمات "عبد الوهاب عزام" سفير مصر في باكستان في الخمسينيات، وهو دبلوماسي وأديب ضليع في الأدب العربي والفارسي. وكان ممن ترجموا له أيضًا الشيخ الأزهري الضرير الصاوي شعلان، وهو رجل أديب وعالم وشاعر، وهو أيضًا مترجم ديوان "الشكوى وجواب الشكوى"، وعنوانه بالعربية "حديث الروح"، وهو ديوان من قصيدة واحدة، اشتهرت كثيرًا بعدما غنت أبيات منها كوكب الشرق أم كلثوم. ومن أبياتها: « قيثارتي مُلئت بأنات الجوى.. لابد للمكبوت من فيضان/ صعدتْ إلى شفتي بلابل مهجتي.. ليبين عنها منطقي ولساني/ أناما تعديت القناعة والرضا.. لكنما هي قصة الأشجان/ أشكو وفي فمي التراب وإنما.. أشكو مصاب الدين للدَّيَّان». كذلك ساهم في هذه الترجمات أدباء سوريون أيضًا، منهم عبد العظيم الملوحي، الذي ترجم ديوان "جناح جبريل" نثرًا، من اللغة الفرنسية التي نقلته عن الفارسية، حتى نظمه شعرًا شاعر سوري آخر. كما أوضح المحاضر شخصية الراحل، مؤكدًا أن إقبال كان "هندي الهوية، حجازي الهوى"، وكان يؤمن بلغة القلب والحب، ورغم كل الدراسات اللغوية والعلوم العقلية التي حصل عليها، إلا أنه كان يؤمن بالقلب أكثر من العقل، ورأى أن الدين ممارسة قلبية ومحبة، قبل أي شئ آخر "فالإيمان والاقتناع النظري بالفكرة لا يجدي شيئًا إذا لم تخالط الوجدان، وتتحول إلى فكرة من لحم ودم. وأكد أن «إقبال» كان من هذا النوع الذي أدرك أن الدين هو قلب وروح، لذلك نجده يقارن دائمًا بين القلب والعقل في بعض أشعاره، ويرى أن القلب هو المهم، وفي قصيدة له من ديوان "جناح جبريل"، كتب: «دواء البصيرة هذا الدواء رجاءك في كشف داء البصر/ وما العقل إلا جدال العلوم وحرب الظنون ورجم النظر/ مصيرك أعظم من وقفة وأول معناه ذوق السفر/ وسر اللآلِئ خلد البريق وإلا فمعدنها حجر/ وما هي جدوى دم في العروق إذا كان يطفئ نار الفكر». وأشار إلى تقديمه أشعارًا كثيرة، كان فيها نوع من التحيز للقلب على حساب العقل، وهذا مظهر من مظاهر فلسفة "إقبال"، ومن أمثلة ذلك بيتين من "جناح جبريل"، كتب فيها عن نفسه: «مضى إقبال هونًا في دروب الفكر واجتاز/ فلما جاء درب الحب مال القلب وانحاز». وقال المحاضر: يمكن اختزال فلسفة «إقبال» في مبدأين، الأول نفي الذات، والأخير إثبات الذات، وديوانه (الأسرار والرموز) جاء في قسمين، هما أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات، وإقبال رأى أن الإسلام يقوم على هذين المبدأين، وأن صلتنا بالخالق عز وجل تتأسس على الفكرة الثانية، وصلتنا بالمخلوق تتأسس على الفكرة الأولى، فإذا أردت أن تلخص كل فلسفة الراحل وشعره، يمكن أن تلخصهما في هاتين الفكرتين الرئيسيتين. وأوضح أنه كان عاشقًا للحجاز ولجزيرة العرب؛ لمحبته للإسلام، وأنه قرأ في إطار بحثه عن فلسفة وشعر إقبال، كتاب لأحد الأدباء الهنود، وهو هندوسي لا يملك احترامًا كبيرًا أو محبة للمسلمين، على حد وصف المحاضر، وأنه حين تحدث عن الراحل، تحدث بأسلوب ساخر، وقال إن "إقبال رجل ظمآن على دفة نهر (الجانج)، لكنه يبحث عن الماء في صحراء العرب". وأضاف: رغم أنه قال هذا على سبيل السخرية، لكن قوله صحيح تمامًا، وقد لخص بمقولته هذه شخصية إقبال، وما لم يدركه هذا الكاتب الهندوسي المغرور، هو أن صحراء العرب عند إقبال هي منبع كل ريق، وهي التي استمدت منها كل البشرية الإسلام، وهو أعذب من أي ماء سواء من نهر الجانج الهندي أو غيره. كما أن الصحراء وبخاصة صحراء العرب عند إقبال رمز فلسفي وفني للشهامة والرجولة والشجاعة، وكل فضائل الفطرة، التي تفقدها الشعوب حتى المتحضرة. واسمع إلى «إقبال» من قصيدة "الشاهين"، وهو يفتخر بأنه ابن الصحراء: «أنا نجل الصحراء والزهد ديني.. وهما في سجيتي ودماءي/ أجهل الزهر والنسيم.. وما في لوعة العندليب عند المساء». فقصائده مجمع لتلك الفضائل الفطرية التي هي جوهر إنسانية الإنسان، وهو الذي نشأ في أجواء الثقافة الهندوسية، ثم ارتضع الثقافة الغربية وأتقنها من منابعها الأصلية، ودرس الاقتصاد وألف فيه كتابًا في بداية حياته، ومع ذلك لم يتذوق هذه الثقافات، ولا سحرت قلبه ولا بهرت لبه، فقد كان كل قلبه في الحجاز. وسواء كان إقبال طالبًا في بريطانيا أو بحاثًا في ألمانيا، أو سائحًا في إسبانيا، فقد ظل عاشقًا للحجاز، وقد زار إسبانيا، وكان أول من صلى في مسجد قرطبة بعد 5 قرون من ترحيل المسلمين عنها. وكان صاحب قلب ومحبة، وكان هكذا الدين عنده، وعبر عن ذلك في العديد من أشعاره، ومنها قوله: «أنا أعجمي الحب إلا أنني/ أطلقت في الحرم الشريف لساني/ كم ثوب إحرام على متضرع/ مزقته باللحن من ألحاني». ومن أخر ما كتب قبل وفاته بخمس دقائق، بيتين من الشعر وثلاث جمل من النثر، بحسب ما أورد الشيخ "الندوي" في كتابه (روائع إقبال)، تضمنوا أيضًا شوقه إلى الحجاز، وقال فيهم: «نغمات مضينا لي تعود/ أنسيم من الحجاز يعود»، وقال نثرًا: «أنا مسلم والمسلم لا يخشى الموت، بل يتلقاه بابتسامة». واختتم «الشنقيطي» بالحديث عن مفهوم الحب عند محمد إقبال، مؤكدًا أن الحب الغريزي عنده نزعة حيوانية، ولا تعبر عن إنسانية الإنسان، فالحب عنده مرادف للكرامة والعزة، وليس كما تعني عند شعراء الغزل، وكانت أروع قصائده تلك التي كتبها في زيارته لقرطبة مطلع القرن العشرين. فقد أحب الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، حتى أنه في ديوانه "جناح جبريل" أورد أشعار عبد الرحمن الداخل، الأمير الأموي وأول مؤسسي الدولة الأموية في الأندلس، كما أنه أطلق على العرب "رسل النخل"، وأحيانا "رسل الصحراء". فهو محمد إقبال.. الأعجمي ذو اللحن الحجازي.