أشهد - بلا مجاملة - أن وسائل إعلامنا قوية الذاكرة أمام أعياد ميلاد الفنانين, والفنانات, أو ذكري وفاتهم ووفاتهن. وأشهد كذلك أنها مصابة بالغفلة والتغافل, وبالنسيان والتناسي, وأكاد أقول بالشلل التام تجاه المناسبات المتعلقة بالعظماء الحقيقيين من مصريين وعرب ومسلمين . ومن مظاهر الحَوَل بل العور وأكاد أقول العمى أن عيوننا وهوانا وكل حواسنا مفتوحة على الغرب ، فالعرب والمسلمون منفتحون في أفكارهم على أمثال : غاندي ، وأنديرا غاندي ، ونهرو ، وطاغور ، ولكن عيون العرب والمسلمين لا ترى وجودا لشاعر عالمي مسلم اسمه محمد إقبال . وبهذه المناسبة أذكر الحكاية اللطيفة الآتية وخلاصتها : أن مدرس اللغة العربية بإحدى مدارس البنات كتب على السبورة البيتين الآتيين : إذا الإيمان ضاع فلا أمان = ولا دنيا لمن لم يحي دينا و من رضي الحياة بغير دين = فقد جعل الغناء لها قرينا وذكر أن القائل هو إقبال وأخذ يسأل التلميذات بعض الأسئلة : س : من تعرف شيئا عن إقبال ؟ فكان جواب إحدى التلميذات : أنا يا أستاذ " أبلة إقبال التى كانت تدرس لنا من عدة سنوات " . ولا عجب في ذلك ... على مستوى الجامعات والصحف والإعلام ... لقد عاش إقبال مظلما حتى عند من تناولوه بالكتابة وخصوصا شعره ، فشوهوه وأساءوا إليه ، فأحد الأساتذة الكبار الذين ترجموا شعره كان حريصا على أمرين هما : 1- أن تكون الترجمة بالشعر الموزون المقفى . 2- الحرص التام على المضمون الفكري . وخلال ذلك كان هناك التضحية بالملامح الفنية في التصوير والأداء ، فلم نقرأ شعرا ، ولكنا قرأنا ما يشبه اللوغريتمات ، وأسلوب الحارات ، كما نرى في البيتين الآتيين : لك القرآن كالمرآة فانصبْ = ونفسك دع إذا غيرت واهربْ لما قدمت ميزانا لتصنع = وفي الماضي قيامات لتطلبْ وما سبق كما يشهد القارئ ما هو بالشعر وما هو بالنثر ، وما هو بقول بشر . وهذا مظهر سيء من مظاهر الظلم الذي وقع على إقبال العظيم بعد أن فارق الدنيا . ونسي الأستاذ المترجم ما قاله " ت . س . إليوت " : إنك إذا ترجمت الأسلوب العلمي إلى لغة أخرى استطعت أن تترجمه بتمامه . وإذا ترجمت النثر الأدبي إلى لغة أخرى لن تصل إلى أكثر من 50% مما ترجمت ، أما إذا ترجمت الشعر إلى شعر بلغة أخرى فلن تصل إلى شيء . بينما نجد العلامة أبا الحسن الندوي يكتب قائلا : إن أعظم ماحملني على الإعجاب بشعر إقبال هو: الطموح والحب والإيمان، وقد تجلى هذا المزيج الجميل في شعره وفي رسالته أعظم مما تجلى في شعر معاصر، ورأيت نفسي قد طبعت على الطموح والحب والإيمان، وهي تندفع اندفاعاً قوياً إلى كل أدب ورسالة يبعثان الطموح وسمو النفس وبعد النظر والحرص على سيادة الإسلام، وتسخير هذا الكون لصالحه والسيطرة على النفس والآفاق ويغذيان النفس والعاطفة، ويبعثان الإيمان بالله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعبقرية سيرته وخلود رسالته وعموم إمامته للأجيال البشرية كلها. واستطاع أبو الحسن الندوي في كتابه روائع إقبال أن يقدم بعض شعره إلى الأمة العربية نثرا ، فنجح في ترجمته نجاحا باهرا . من ذلك قصيدته الملحمية التي تحدث فيها إلى الأمة العربية وفيها يقول : أيتها الأمة العربية التي كتب الله لبديتها وصحرائها الخلود من الذي سمع العالم منه نداء لا قيصر ولا كسرى لأول مرة في التاريخ ... من الذي أطلعه الله على سر التوحيد فنادى بأعلى صوته لا إله إلا الله وما هي البقعة التى اشتغل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم ؟ ........ ........ لقد أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل فتارة يدوي الأذان في ساحة الحرب وتارة تتحلى الآذان بقراءة " الصافات " بين صليل السيوف وصهيل الخيول إن سيف البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي ونظرة الزاهد الأواب كأبي يزيد البسطامي مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة ........... .......... أيها العرب قد منَّ الله عليكم إذ جعلكم مثل السيف البتار أو أحدّ منه وكنتم فيما قبل ترعون الإبل في الصحراء ثم انعكست الآية فسخر الله لكم المقادير فضلا عن الإبل من مالك أعنتها فلو أقسمتم على الله لأبركم وهنالك دوت تكبيراتكم وصلواتكم وزمزمت جلبة حروبكم ومغازيكم بين الخافقين فرتج بها ما بين الشرق والغرب فما أحسن تلك المغامرات وما أجل تلك الغزوات وفي نهايات الملحمة يورد أبياتا يشكو فيها إلى روح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناجيه بمناجاة من قام بين يديه واذن له في الكلام ، فيقول : لقد تشتت شمل أمتك يا محمد يا رسول الله فإلى أين يلجأ المسلم الحزين وإلى من يأوي ؟ لقد سكن بحر العرب المضطرب المائج وفقدت الأمة العربية ذلك اللوع وذلك القلق الذي عرفت به فإلى من أشكو ألمي ؟ وأين أجد من يساعدني على آلامي وأحزاني ؟ زماذا يفعل حادي أمتك ؟ وكيف يقطع الطريق الشاسع ويطوي السفر البعيد في هذه الجبال والصحراوات ؟ وقد ضل سبيله ، وفقد زاده ، وانقطع عن الركب . بالله بالله قلي ماذا يصنع حامل دعوتك المؤمن برسالتك وأين يجد زملاءه ورفقته وما قدمناه من شعر إقبال في هيئة نثر يشبه شعر التفعيلة أبلغ بكثير من الترجمات الشعرية المقفاة التى أفسدت شعر الرجل العظيم . ولعل ما قدمناه ينتصف إلى حد ما لذلك العظيم المظلوم محمد إقبال . ********** وفي أيامنا هذه الموكوسة المنكوبة أراني مشدودا إلي محمد إقبال.. ولا يستطيع باحث في فلسفة الشرق, وأدب القارة الهندية, وكفاح المسلمين فيها إلا أن يقف وقفة طويلة متأنية تتدفق بالإجلال والتقدير والتعظيم أمام شخصية هذا الرجل الفذ العظيم محمد إقبال. ولد محمد إقبال في «سيالكوت» بالهند في 9 من نوفمبر سنة 1877. وفي سنة 1890 ذهب إلي مدينة «لاهور» لإكمال دراسته. وفي سنة 1897 نال درجة (B. A). وبعد ذلك بسنتين نال درجة (M. A) وفي سنة 1905 ذهب لتحصيل مزيد من العلم في لندن .. وفي سنة 1908 حصل علي درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونيخ بألمانيا, ثم عاد إلي لاهور بالهند ليعمل محاميا.. وفي سنة 1927 انتخب عضوا في الجمعية التشريعية في بنجاب. ثم انتخب رئيسا للرابطة الإسلامية في الهند سنة 1930. وذهب إلي مؤتمر المائدة المستديرة في لندن سنة 1931. وفي مدينة القدس حضر المؤتمر الإسلامي سنة 1932. ورفع إقبال لواء الدعوة إلي إنشاء «باكستان المستقلة». ومن أقواله المأثورة «إن أمة لا تملك أرضا تستند إليها لا دين لها ولا حضارة, فإن الدين والحضارة بالحكومة والقوة, وإن باكستان هي الحل الوحيد للمشاكل التي يواجهها المسلمون في هذه القارة الهندية». وتحقق حلم الرجل العظيم بقيام «باكستان المستقلة», ولكن بعد وفاته بعشر سنين. شاعر.. كاتب.. باحث.. فيلسوف, تلك كانت جوانب هذه الشخصية الموسوعية التي مكنت صاحبها من أن يكتب وينظم بالفارسية, والأوردية, والانجليزية, فنظم قرابة عشرة دواوين منها: بال جبريل - أرمفان حجاز - بيام شرق. وجاءكتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام» دليلا علي عمق التفكير, والقدرة الفائقة علي الاستقصاء, والمرونة في معالجة القضايا الدينية والفلسفية. وكان يري أن واجبنا يقتضي أن نرقب - في يقظة وعناية - تقدم الفكر الإنساني, وأن نقف منه موقف النقد والتمحيص وهذا الموقف الإيماني العقلي في مواجهة العلوم الإنسانية. والتعامل معها بمرونة وحرية نابع من دعوته إلي ضرورة «اعتبار الذات» أي إيمان الإنسان بأهميته وقيمته وعظمة دوره الإيجابي في الحياة. وهو معني ظل إقبال يردده ويلح عليه في رسائله وشعره. ومن أرقي ما كتبه في هذا المعني ما خاطب به ابنه «جاويد» في ديوانه «جاويد نامه»: أأنت مجرد ذرة من تراب? أشدد عقدة ذاتك واستمسك بكيانًك الصغير ما أجلّ أن يصقل الإنسان ذاته!! وأن يختبر رونقها في سطوع الشمس فاستأنفٍ تهذيب إطارك القديم وأقم كيانا جديدا مثل هذا الكيان هو الكيان الحق وإلا فذاتك لا تزيد علي أن تكون حلقة من دخان وانطلاقا من إيمانه العميق بالله, وبالذات الإنسانية, وكرامة الإنسان وحريته, جاء نقده المر العنيف للحضارة الغربية, لأنها حضارة عوراء, لا تنظر للوجود إلا بعين واحدة, هي عين المادية الصماء, والشهوانية العاتية. ولا قيمة للعلم إذا تعارض مع القيم الإنسانية العليا, ولم يضع في اعتباره «آدمية الإنسان وكرامته» بوصفه أشرف المخلوقات بالعقل والشعور. ويقول إقبال «إن الفلسفة التي لم تكتب بدم القلب فلسفة ميتة أو محتضرة» أما نظرته إلي الحضارة العربية والإسلامية فكانت نظرة المحب العاشق, ونظرة الحزين الأسوان في وقت واحد, لقد غيرت هذه الحضارة مجري التاريخ, وقادت أمم الدنيا إلي الحق والعلم والتقدم, ولكنها الآن «مجموعة من الأسلاب المنهوبة في يد الأعداء». فلاعجب أن ينظم إقبال ديوانا كاملا عنوانه «أرمفان حجاز» أي «هدية الحجاز», ولا عجب أن ينظم مطولة شعرية يتحدث فيها إلي الأمة العربية مذكرا العرب بماضيهم المجيد, قائلاً: «أيها العرب, لقد منَّ الله عليكم إذ جعلكم مثل السيف البتار, أو أحد منه.. فلو أقسمتم علي الله لأبرَّكم...» ولكنه ينظر لحاضر الأمة العربية فيأخذه الأسي والحزن, ويصرخ فيهم «آسفا علي هذا الخمود والجمود. أيها العرب: ألا ترون الأمم الأخري كيف تقدمتٍ وسبقتٍ? كنتم أمة واحدة فصرتم اليوم أمما, لقد فرقتم جمعكم, ومزقتم شملكم, وانقسمتم علي أنفسكم. وكان دائما يذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم , ويدعو إلي الاقتداء به. ومن أشعاره «إن السيد الذي داست أمته تاج كسري كان يرقد علي الحصير, إن السيد الذي نام عبيده علي أسرّة الملوك, كان يبيت الليالي لا يكتحل بنوم, لقد لبث في غار حراء ليالي ذوات عدد, فكان أن وُجدتٍ أمة, ووجد دستور, ووجدت دولة. ويطول بنا المقام لو استرسلنا في تعداد القيم الإنسانية والأخلاقية التي دعا إليها إقبال في شعره وكتاباته, وكان قدوة طيبة في أخذ نفسه بهذه القيم والتحلي بها. وما أحوج شبابنا - بصفة خاصة - في مصر والشرق العربي للإيمان بهذه القيم.. إيمان الواعين الفاعلين. لقد كتب عن إقبال حتي الآن - بكل لغات العالم - ما لا يقل عن ثلاثة آلاف كتاب, عدا أضعاف أضعافها من المقالات . وللأسف نري أن ما كتب عنه بالعربية هو القليل الأقل. فمنٍ مًنٍ شبابنا قرأ واحدا من هذه الكتب? ومَنٍ مًن شبابنا قرأ ديوانا, أو حتي قصيدة لإقبال? ويأخذني الأسف والأسي حينما أفتح كتبنا المدرسية في التاريخ والقراءة والنصوص بحثا عن صفحة واحدة كتبت عن «إقبال» فلا أجد, بينما أتخمت هذه الكتب بالحديث عن علماء الغرب , ومخترعيه , وفلاسفته. آه!! إنها عقدة الخواجة مازالت تحكم سلوكنا, وتسيطر علي نفسياتنا, فنري كل ما في الغرب بإعجاب وتقدير, ونري كل ما في الشرق قبيحا مستهجنا. والأدهي من ذلك أن يوصف «موالي» الغرب, والداعون إلي التبعية الفكرية والنفسية للغرب بأنهم تنويريون تقدميون. أما الداعون إلي مرجعية الدين وذخائرنا التراثية الأصيلة فهم ظلاميون متخلفون!! ولا أملك إلا أن أقول في نهاية المقال : عفوا عفوا .. سامحنا يا إقبال العظيم. [email protected]