في البحث عن البهجة

أتحداك أن تري لوحات الفنانة رباب نمر وتمر عليها دون أن تقتحمك ألوانها لتزرع في أعماقك إيقاعات جمالية غير مسبوقة. وكنت مثل كل الناس العاديين أركن إلي التليفزيون لمتابعة أخبار الكون بداية من ارتفاع أسعار اللحوم ومرورا بالقصة المضحكة التي تجمع فيها إسرائيل آلافا من أهل فلسطين لتطردهم خارج أراضيهم، وكأن نتنياهو يتناسي ما حدث في أفريقيا، ويتناسي ما تريده الولايات المتحدة من ضرورة وجود وطن فلسطيني لأن مصالحها في البلاد العربية والإسلامية معرضة لأخطار فادحة. تركت كل هذا الضجيج الذي يجعل الدم يفور في الرأس كما يغلي البن في كنكة القهوة، ونزلت إلي معرض رباب نمر الفنانة التي لا مثيل لابداعها، حيث ترسم الحبر الملون علي ورق أبيض سميك لتهدينا مناخا نقيا نفتقده في حياتنا اليومية، والمعرض موجود في قاعة الزمالك، تلك القاعة التي اشتهرت بنوعية راقية جدا من الفنانين المصريين. وإذا كانت رباب نمر قد اختارت موضوعا لها هو "الأنفوشي"، فهذا الاختيار نابع من حياتها بالإسكندرية، حيث الحي العريق المشهور بشمسه التي لا نظير لها، حيث يغسل الضوء كل شيء، ويزدحم الهواء برائحة شباك الصيد العائدة بالرزق من قلب الميناء الشرقي، وأكاد أن أقول أن رباب اخترعت لنا "أنفوشي" قديم، غير الأنفوشي المعاصر الذي صار مزدحما بضجيج أفقده طابعه القديم، وهي عندما تهدينا هذا "الأنفوشي القديم"، بألوان وخطوط محكمة اختارتها لنفسها كأسلوب في الأداء الفني، حين فعلت ذلك إنما تؤسس في الوجدان أهمية الذاكرة التي لا يمكن أن تكتب تاريخا جماليا لمنطقة تملك من السحر فوق ما يتخيل أي أحد. عن نفسي أقرر وأشهد أن رؤيتي للعالم صارت أكثر قدرة علي الخروج من دائرة الغضب الأرعن، وامتلكت رأسي بدلا من أن تتلاعب بها رحلات الغضب الممولة بالإعلانات التي تزدحم بها البرامج الحوارية المسائية، وامتلكت قدرة علي التمييز، فالفن ينقي الأعماق ويعمق البصيرة، ويجعلك قادرا علي كشف اللاعبين برأسك بعيدا عنك. ولن أتحدث عن موسيقية الألوان وعمقها وقدرتها علي أن تجعل الإنسان أكثر ثقة بالحياة. العزيزة رباب نمر: لإبداعك عطر امتزاج الموهبة الفياضة مع المهارة غير المحدودة، وأنت لا تضنين علينا بجمال الاتقان، هذا الاتقان الذي صار بعيدا عن أغلب ما يحيط بنا من أعمال. منير عامر