الزمان: 19 أكتوبر 1973م المكان: الإسماعيلية غرب قناة السويس وجاءت المعركة الكبرى التي انتظرها الأبطال بصبر السنين، لم يكونوا كبقية جنودنا مكبوتين في الخنادق، ولا كانت بنادقهم تشتاق رائحة البارود، فلم يكن هناك وقف إطلاق نار بالنسبة لهم من الناحية العملية, ومع ذلك ربما كانوا أكثر شوقا للمواجهة الواسعة، ربما لأنهم كانوا – من خلال الاشتباك المتكرر مع العدو – هم الأكثر ثقة في قدرتنا على تحدي الصلف والغرور وكسر أسطورة الجندي الذي لا يقهر. فقد رأوه مقهورا وصارخا عشرات المرات. بالنسبة لهم، وخلافا لباقي الجنود المشاركين حتى في الموجة الأولى للعبور، بدأت المعركة في يوم 5 أكتوبر 1973م، حين عادوا لزي الشرف العسكري من جديد، وعادت لهم رتبهم وأنواطهم ونياشينهم العسكرية، فوقف إطلاق النار سوف تكسره مصر وسوريا في ظهر اليوم التالي. وقد صدرت لهم عدة مهام فدائية للقيام بها في سيناء وهم بالزي العسكري وبصفتهم الأصلية، كانت في معظمها مهام استطلاعية للتأكيد على عدم وجود أي تحركات للعدو، وتأكيد إحداثيات بنك الأهداف الذي ستوجه له الضربة الجوية المصرية. وكان تكليفهم لليوم التالي، يوم السادس من أكتوبر، هو إشعال النيران في آبار بترول بلاعيم شرق القناة، بعد أن تسقطهم ناقلات الجنود هناك، وقبل أن تبدأ موجة العبور الأولى بأربعة آلاف جندي من المشاة في زوراق الزودياك المعدلة. في الساعة الثانية عشرة ظهرا من يوم السادس من أكتوبر، وعند نقطة التجمع على الضفة الغربية، أقبل "الرفاعي" على رجاله الذين كانوا بزيهم العسكري ورتبهم وبشدة الميدان الكاملة، وبالقرب منهم تربض ثلاث طائرات هليكوبتر في انتظارهم لتنقلهم للضفة الشرقية. طلب منهم التخفف من بعض العناصر التي قد تثقل حركتهم في شدة الميدان، وفتح الخريطة الميدانية ليوزع عليهم مهام إشعال النيران في آبار البترول بعد أن قسمهم لخمس مجموعات. ارتجت أرض سيناء بأصوات الطائرات المصرية وهي تضرب الأهداف التي أكدوا إحداثياتها بالأمس، ويقسم كل من رأى وجه العقيد "إبراهيم الرفاعي" في هذه اللحظة أنه كان يستمع لصوت القنابل كأنه شدو البلابل، كان مبتسما ومبتهجا كما لم يكن من قبل. عندما تأكد من استعداد المجموعة أشار بيده علامة الاستعداد للطيارين، وبدأت المجموعة تقفز للطيارات الثلاثة وهم في حالة من النشوة كأنهم طلاب يقفزون لأتوبيس الرحلة، وليس أبطال سيواجهون الموت بعد دقائق. بعد أقل من نصف الساعة كانت المجموعات الخمسة كما قسمها "الرفاعي" مشتبكة مع العدو، وقبل الزمن المحدد لإنهاء العملية كانت آبار بلاعيم تشتعل نارا تصل لعنان السماء. وفي غضون الأيام من 7 أكتوبر وحتى 14 أكتوبر،كانت المجموعة 39 قتال التي عادت لصفتها العسكرية من جديد في كل مكان في سيناء، تقاتل قوات العدو عند راس محمد وشرم الشيخ، تهاجم طائراته الرابضة على الأرض في مطار الطور عدة مرات. وعندما عادوا من آخر مهمة لتدمير الطائرات في مرابضها، قال "الرفاعي" لمجموعته "إنه يوم بيوم الخامس من يونيو"، فقد دمروا طائرات العدو الرابضة في المطار كما حدث للطائرات المصرية في نكسة يونيو. كانت المجموعة تقاتل في ملحمة رائعة من البطولة والحرفية لا تقل عن ملحمة الاستنزاف .. حتى جاء فجر يوم الثاني عشر من أكتوبر. حين وصلت تعليمات القيادة للواء "سعد مأمون" قائد الجيش الثاني، واللواء "عبد المنعم واصل"، بتطوير الهجوم شرقا نحو مضايق سيناء. لتخفيف الضغط على الجبهة السورية. وبدأ تطوير الهجوم مع أول ضوء يوم 14 أكتوبر. بدأ تطوير الهجوم بتحرك الجيش الثالث شرقا، وتم سحب فرقتين مدرعتين هما الفرقة الرابعة والفرقة الحادية والعشرين من خلفية الجيش الثاني الميداني، وكانت مهمتهما الأساسية هي تأمين خلفية وخطوط إمداد الجيشين، وتغطية الثغرات التي تظهر في الحروب نتيجة لزحف الجيوش، والتي يمكن رصدها من خلال الطيران المرتفع، وهو ما حدث بالفعل. فمع رصد الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث من خلال طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وضع"آريل شارون" خطة سريعة هي الخطة "غزالة"، واقتحم بقواته الثغرة، مستوليا على أحد رؤوس الكباري المقابلة للإسماعيلية، وعبرت قواته لغرب القناة، ودمرت بطاريات الصواريخ سام2 وسام3 التي توفر حماية للقوات شرق القناة، وتأخر قرار تصفية الثغرة، فزاد عددها غرب القناة لتصبح خمس ألوية مدرعة، ولواء مشاه ميكانيكية، ولواء قوات خاصة. وأصبح الجيش الثالث محاصرا. وزاد الخلاف الشهير بين الرئيس "السادات"بوصفه القائد الأعلى، وبين الفريق "سعد الدين الشاذلي" رئيس الأركان، والذي بدأ مع قرار تطوير الهجوم، وزاد في كيفية التعامل مع الثغرة. كان الفريق معنيا بجانب العمليات، لهذا كان مصرا على سحب ألوية مدرعة من شرق القناة لتصفية الثغرة[1]،خاصة أن تطوير الهجوم نحو المضايق – خارج مظلة الدفاع الجوي – قد فشل، ولم يعد هناك داع عسكري لتكديس القوات شرق القناة. وكان الرئيس يرفض باستمرار، حيث كان معنيا بالجانب المعنوي للقوات المقاتلة، وبعقدة يونيو التي قد تطفو على السطح[2] لو تم سحب قوات من شرق القناة لغربها. كان العقيد "إبراهيم الرفاعي"يحترق انفعالا بداية من يوم 14 أكتوبر مع تطوير الهجوم وسحب الفرق المدرعة من خلفية الجيش الثاني، فهو ضابط أركان حرب مؤهل للتخطيط ويعرف جيدا أن هناك خلل ما، لكنه أبدا لم يتحدث لأحد من ضباطه، حفاظا على روحهم المعنوية. حتى كان يوم 17 أكتوبر وجاءت الأوامر لمجموعته بالتحرك نحو الدفرسوار والتسلل لقوات العدو في الثغرة، ونسف الكوبري الذي تعبر عليه قوات العدو من شرق القناة لغربها، عند الإسماعيلية. دخل عليه الرائد طبيب "عالي نصر" في غرفته بمقر المخابرات الحربية في مدينة الإسماعيلية، بينما كانت المجموعة تستعد للتحرك نحو قوات الثغرة، ومعه ضابط الإشارة: - فيه إشارة يا افندم .. أوامر جديدة بالتصدي لمدرعات العدو على طريق الإسماعيليةالقاهرة. عقد "الرفاعي" حاجبيه مفكرا، ثم نظر لضابط الإشارة وهو يقول: - علم، اتفضل إنت، أشكرك. انصرف ضابط الإشارة بينما كان الدكتور "عالي نصر" يتأمل في وجه "الرفاعي" المتجهم، محاولا أن يسبر رد فعله. ثم سأله قائلا: - هنعمل إيه يا افندم؟ نظر له "الرفاعي" للحظات صامتا، ثم قام وهو يضبط مسدسه في قرابه ويقول: - هننفذ الأوامر طبعا يا حضرة الرائد. - هنواجه خمس ألوية مدرعة ونوقف تحركها بمجموعة صاعقة يا افندم؟ - هننفذ الأوامر يا "عالي". احنا مش في مجلس الأمة علشان نناقش. احنا جنود. - يا افندم حضرتك .. العقيد "إبراهيم الرفاعي". - الرفاعي أول واحد ينفذ أوامر القيادة. خلص الكلام. سكت "عالي" وهم بالخروج، ثم عاد ثانية، وهو يطلب من القائد أن يسمح له بالحديث خارج الإطار الرسمي، نظر له "الرفاعي" بنظرة أبوية، ثم وقف أمامه ووضع يديه فوق أكتافه وهو يقول: - يا "عالي"، أنا فاهمك كويس. بس إنت كمان لازم تفهم إن كلنا بشر، والحروب الكبيرة ممكن يكون فيها أخطاء كبيرة. مهما كان الخطأ في تطوير الهجوم، والخطأ في التعامل مع الثغرة، يفضل الخطأ الأكبر من ده كله، هو عدم تنفيذ الأوامر. - يا افندم … - عصيان الأوامر معناه انهيار الجيش كله يا"عالي". جهز نفسك، هنتحرك مع آخر ضوء. وتحركت المجموعة بالفعل مع آخر ضوء، وبدأت الاشتباك الليلي مع قوات الثغرة من أطرافها. وبدأت قوات المجموعة في التقدم، وتصدت لتقدم مدرعات العدو يوم 18 أكتوبر على طريق الإسماعيليةالقاهرة، حيث دمرت ثلاثة من دباباته وأرغمت سريته على التقهقر. ورصدت المجموعة خلال الاشتباك وجود بطارية صواريخ مصرية سام 3 وقد أبيد طاقمها. فقرر الرفاعي التحرك نحوها، واستعادتها من قوات العدو، مع أول ضوء من يوم 19 أكتوبر، قرر التحرك بنفسه مع سرية من ثلاثة أفراد، "مصطفى إبراهيم"، و"الصادق عويس"، و"شريف عبد العزيز". وبقي البطل ليلته ساهرا بانتظار الفجر. أوليس الفجر بقريب؟ جاء "شريف" ببعض البسكوت المالح وزمزمية مياه للعقيد الرفاعي ليتناول سحوره، فقد كان يصر على الصيام بينما يأمر الجميع بالإفطار. كان القائد باسما مبتهجا، وقد زال عنه الهم الذي كان يفكر فيه منذ تطوير الهجوم. حتى أنه بعد أن فرغ من سحوره ناول زمزمية المياه الفارغة للمقاتل "الصادق عويس"، أمهر رماة الآر بي جي في المجموعة، وكان يجيد فن الإيقاع، وطلب منه"الرفاعي" أن يدق عليها لحنا من ألحان السمسمية قائلا: - دق لنا "يا بيوت السويس" يا "صادق" وبدأ "الرفاعي" يغني مع المجموعة بنفسه وهو يصفق بيديه علىالإيقاع: يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي أستشهد تحتك … وتعيشي إنت يا بيوت السويس .. يا بيوت السويس وكلما همت المجموعة بالانتقال للمقطع التالي من الأغنية، وجدوه يكرر نفس المقطع. حتى تناهى إليهم صوت أذان الفجر من إحدى قرىالاسماعيلية القريبة، فقال: - نصلي الفجر ونتوكل على الله يا رجالة. توضأوا جميعا وصلى بهم إماما، كان صوته رخيما جليا في قراءة الفجر، بدأ في الركعة الأولى من أول سورة الأحزاب حتى قوله تعالى"قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُإِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لّا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا"،وفي الركعة الثانية استمر في نفس السورة حتى قوله تعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا". طلب الرائد "عالي" الخروج معهم في المهمة، فأجابه "الرفاعي"باسما: - أمال مين يسعفنا يا دكتور؟ تابعنا بنضارة الميدان، علشان لو حد في الشباب اتصاب. لم يقل "لو حد فينا" كأنه كان يستثني نفسه من الإصابة.. أو .. من قابلية الإسعاف. رآه "عالي" وهو يخرج صور زوجته "نادية" وولديه "سامح" و"ليلى" من محفظته، وينظر لها باسما، قبل أن يضع الخوذة فوق رأسه. خرجت السرية وبقي الرائد "عالي نصر" في مكانه حتى سمع صوت النيران يتصاعد بعد أقل من نصف ساعة. كان يعرف موقع بطارية الصواريخ التي تم رصدها في اليوم السابق، فرفع نظارة الميدان وصوب نظره نحوها ليرى مشهدا سوف يلازمه حتى نهاية العمر. مشهد الأسد واقفا. كان العقيد "إبراهيم الرفاعي" يعتلي سطح البطارية على ارتفاع حوالي مترين عن الأرض، والآر بي جي على كتفه، ويطلق القذيفة تلو الأخرى على رتل الدبابات الذي يواجهه بمواسير المدافع مصوبة نحوه، وكان خلفه "مصطفى" يجهز له الذخيرة ويضعها في فوهة مدفعه بعد كل طلقة، بينما "صادق" يطلق القذائف من أسفل البطارية محتميا بها، ويحاول"صادق" كل حين أن يجذب "الرفاعي" لأسفل ليحتمي بجسم البطارية، بينما البطل يرفض بإشارات يده. وفهم العدو من نظارة الميدان واللاسلكي المعلقان في عنق الرفاعي أنه القائد، فصارت الانفجارات حوله كأنها وابل من السماء. دق قلب "عالي" بقوة، كان يعرف أن "الرفاعي"خرج اليوم ليضع سطر النهاية في ملحمته … وحدث ما توقعه. انفجرت قذيفة على بعد مترين من موضع وقوف البطل، وعندما انقشع غبارها كان مازال واقفا، لكن يمناه التي كانت تحمل المدفع على كتفه قد تدلت الآن بجانبه، ومازالت كفه تقبض على المدفع المضاد للدبابات … وكاد أن يسقط، لولا أن احتضنه "مصطفى" من خلفه وحمله على كتفه فورا، ليجري به باتجاه نقطة الانتشار. صرخ "نصر" في سيارة الجيب لتتجه نحو "مصطفى" فورا، وسقطت نظارة الميدان من يده عندما كان يطلب الهليكوبتر باللاسلكي لتقوم بإخلاء العقيد فورا للمستشفى. لكنه عندما وصلت الجيب، وجرى نحوها بلهفة رغم النيران التي تنفجر في كل مكان، ورفع جفن العقيد "الرفاعي" .. فعرف أن كل شيء قد انتهى على الفور. لكنه لم يستطع الحديث.وطارت الهليكوبتر نحو مستشفى الجلاء. طارت وهي تحمل الرجل الذي مات كالأشجار ..واقفا .. وعاليا. ————