كان الله في عون رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال، بالغ الدماثة واللطف، بعض تصريحاته الأخيرة، في المسألة الاقتصادية تدل على حيرة تكاد تنقلب تخبطا. ونظن أن اللوم يقع على ما يصله من نصح. الكاتب يتفهم أن رئيس الوزراء يحمل أعباءً ضخاما ومرهقة، ولكن الدأب على الاعتذار عن ذنوب نظام الحكم الذي أسقطته ثورة شعب مصر، وأخطاء معاونيه، بدماثة الخلق المحببة والأدب الجم اللذان افتقدهما المصريون في المسئولين في ظل الحكم التسلطي، لن يعوضا سوء اختياره لمعاونيه، واستمرار اتخاذ القرارات بذهنية، بل وأحيانا برجالات، العهد الساقط. فقد كانت هذه بالضبط سمات سلفه أحمد شفيق، آخر رؤساء وزراء الرئيس المخلوع، والذي تبين الآن أن همه الأول كان الكيد للثورة وحماية مصالح رؤوس الحكم الساقط. ومن أسف أن د. شرف قد أُورث غالبية تشكيل حكومة شفيق، ابتداء من نائبه الذي لا يقوم اتفاق في مصر الآن قدر الاتفاق على مساوئه- والذي لا يكل من التصرف وكأنه صانع السياسة والتشريع الوحيد في مصر حاليا- كما أورث جميع وزراء الجانب الاقتصادي. وكان طبيعيا أن تصبغ ذهنيات التنظيم الاقتصادي في ظل الحكم الساقط، وعقيدة لجنة سياسات ولي العهد المسمى الذي أسقطته الثورة مع والده، مع بعض تجميل على الهوامش، الموقف الاقتصادي لوزارة شرف. وأحد أسوأ جوانب العقيدة الاقتصادية لهؤلاء هو اعتبار المال جوهر التنمية، ما يفضي إلى الهرولة لجمع المال بأي شكل، ولو بالاقتراض المدمر للمستقبل. وجلي أن هذه العقيدة معيبة في الصميم، فلو كان المال يقيم تنمية لكانت السعودية ودويلات الخليج بين كبريات الدول في العالم، وليسوا كذلك بالطبع. إن عماد التقدم في هذا العصر هو المعرفة وليس المال، ومصر غنية إمكانا بالقدرة على اكتساب المعرفة سبيلا لتبني نمط إنتاج المعرفة، وإن بشروط. ولكن ليس بمستغرب في ظل هذه العقيدة الاقتصادية أن لم ينل اكتساب المعرفة ولو عشر ما لقي الاهتمام بجمع المال، أو الشكوى من قلته، في حكومة د. شرف. والكاتب يتفهم أيضا ضرورة أن يزرع رئيس الوزارة الأمل في مستقبل مصر الثورة. ولكن شتان بين زرع الأمل والمبالغة الزائدة التي تقارب بيع الوهم الذي يظهر في بعض تصريحاته الأخيرة، ويكاد يستحيل تحقيقها، وستبقى من ثم شاهدا على إساءة التقدير، وتصب في جانب مساوئ فترة ولايته الانتقالية. ولنأخذ مثلا واحدا، فوفق تقارير صحفية متكررة في أكثر من مصدر، نقل لنا أن “أكد الدكتور عصام شرف، رئيس مجلس الوزراء، أن مستقبل مصر واعد جدا، مشيرا إلى أن تنبؤات التقارير العالمية تشير إلى أن مصر إن لم تكن الأولى في سنة 2050 فإنها ستكون من الدول الأولى اقتصاديا بالعالم، وأنه في عام 2020 – 2030 ستكون من ال15 دولة الأولى في العالم “. وظني أن وزير مالية شرف، وشفيق، الذي يتفاخر باتساع خبرته الدولية، وراء هذا الادعاء. ولا ريب لدينا في أن مستقبل مصر ليس فقط مطمئنا، ولكن يمكن أن يكون مزدهرا ومبهرا، ولكن بشروط سنعود إليها فيما بعد. غير أن هذا التقدير شيء والادعاء بأن مصر يمكن أن تكون الدولة الأولى اقتصاديا في العالم كله في العام 2050، شيء آخر تماما لا تسنده أي شواهد موضوعيه. ولا مناص هنا من ذكر أن العام 2050 هو العام الذي تخطط فيه الصين لأن تكون القوة الأكبر في العالم، وبناء على تطورات السنوات الأخيرة، فقد تبلغ الصين هذه المكانة قبل ذلك التاريخ. فهل يتصور عاقل أن مصر التي أضعفها نظام الحكم التسلطي السابق وأفقرها ونهبها، تستطيع أن تنافس الصين على هذه المكانة؟ أشك في ذلك كثيرا! الواقع أن تحقق هذه المكانة الأولى يقتضي أن تتفوق مصر على جميع الدول المرشحة للانضمام لمعسكر القوى الأكبر في العالم، وتشمل فرنسا، واليابان، والولايات المتحدة، وألمانيا، والاتحاد الروسي، والبرازيل، ناهيك عن الهند والصين. وتتراوح نسبة الالتحاق بالتعليم في الستة الأولى منها بين 95% و 87% على الترتيب، بينما كانت في مصر حول 66%، ويتعدى الناتج الإجمالي للفرد فيها جميعا ضعف مستوى مصر. وأرى التركيز على الالتحاق بالتعليم على أساس أن المحدد الأهم لمكانة الدول في الطور الحالي من تقدم البشرية هو مدى اكتساب المعرفة. وعلى الرغم من أن كلا المؤشرين أقل في الهند والصين عن مستوى مصر حاليا، فإن الفارق الهائل في حجم السكان والاقتصاد، يؤهل أي منهما لمكانة الدولة الكبرى خلال عقدين أو ثلاثة، قبل مصر، خاصة إن استمرت مصر على مسار الاقتصاد السياسي لحقبة الحكم التسلطي، كما هي حتى الآن. ولا ريب في أنني كمصري أتمنى في المطلق، أن تحقق مصر مثل هذه الإنجازات الهائلة، وإن كان سيبقى هذا الأمل عند مستوى التمني الرغبي الذي لا تسنده أسس موضوعية، ومن ثم لا يصح أن ينطق به مسئول، وإلا وضع لبلده، ولنفسه كمسئول، طريقا أكيدا لخيبة أمل قادمة. أما عن الشروط اللازمة لكي تحقق مصر أقصى طموحها التنموي فتتمثل في تقديري في تبني التوجهات التالية: أولا إقامة البنى القانونية، وتاجها الدستور، والبنى السياسية التي تضمن نيل غايات الثورة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية،من خلال الحكم الديمقراطي الصالح وثانيا، في مجال التنمية، تضطلع الدولة بدور فاعل في قيادة التنمية الإنسانية المستقلة من خلال التخطيط التأشيري والتوافر على تطوير المشروعات المملوكة للشعب. وتتبني الدولة نمط إنتاج المعرفة، ما يستلزم. * إصلاح التعليم الأساسي(10 صفوف)، وإقامة نسق للتعليم المستمر مدى الحياة، لضمان الانتشار الكامل وترقية النوعية (حفز مهارات الابتكار والإبداع) * تطوير منظومة قادرة للبحث العلمي والتطوير التقاني في جميع مناحي الحياة، من خلال إقامة نسق وطني للابتكار والإبداع، لضمان ولوج عصر المعرفة باقتدار، وتطوير البنية الإنتاجية للاقتصاد من خلال إثابة الإبداع والتجديدفي جميع مناحي النشاط المجتمعي. وتقوم الدولة على تشجيع الإدخار المحلي من خلال حوافز لترشيد الإنفاق العائلي ومناهضة الإسراف والتبذير في الإنفاق العام. وبدلا من دعم رأس المال الكبير الاحتكاري كما فعل النظام الساقط، يتعين أن تشجع الدولة المشروعات الصغيرة والصغرى، خاصة تلك كثيفة العمالة وعالية الإنتاجية، وأن تدعم اشكال الملكية، والإدارة، التعاونية لتعزيز إنتاجيتها، من خلال خدمات التمويل والدعم الفني والتسويق، وأن تحفز الدولة المشروعات كافة على خلق فرص العمل الجيدة ورفع الإنتاجية، من خلال الحوافز الضريبية وغيرها. ولا مناص من محاربة جميع أشكال الاحتكار والفساد (بمعنى الاكتساب غير المشروع للثروة أو السلطة) من خلال دعم وإنشاء نسق كفء للنزاهة في عموم المجتمع، خاصة في ميداني الإدارة العامة والنشاط الاقتصادي، وبأن ينظم القانون محاكمات المسئولين في المجالين عند الاقتضاء وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية بضمان حد أدني من العيش الكريم لجميع المصريين من خلال شبكات فعالة للأمن الإنساني، وضمان حد أدني للأجور والمعاشات يرتبط بمستوى غلاء الأسعار، ووضع حد أعلى للأجور. وعلى وجه الخصوص، تضمن الدولة حدا أدني للعيش الكريم لغير القادرين وأصحاب الاحتياجات الخاصة. كذلك تضمن الدولة ألا يحرم طفل من التعليم الأساسي راقي النوعية وألا يحرم طالب علم مجيد من المراحل الأعلى من التعليم، بسبب ضعف قدرة أهله المالية، خاصة من الفئات الاجتماعية المحرومة حاليا. كما تضمن الدولة توافر الرعاية الصحية للجميع بغض النظر عن المقدرة المالية.