تجلس كعادتها بمفردها ولا تهتم بالآخرين، لها هالة من ضي مختبيء وراء صمتها. لا تغير من وضع جلتسها مطلقا. تجلس وتدفن رأسها فى شاشة الموبايل الذي تحمله يدها اليسري، واليد اليمنى تمسك ب"مبسم" الشيشة. النادل دون تدخل منها يدرك متى يغيرحجر الشيشة أو متى يحضر قهوتها ، والعلاقة بين النادل ومنضدتها علاقة حاسمة ومحددة الملامح لذا كانت لاتتدخل بينهما طالما هى جالسة بالمقهي . فنجان القهوة والشيشة والموبايل يشكلون معا أهل وصحبة وعشاق، كيف لفتاة أن تختزل الكون فى ثلاثة فقط؟ أليس لها من أصدقاء أو عشيق أو أقارب ؟ من الملاحظة لها على مدارعام فإن الاجابة تؤكد النفي ..وتؤكد أن عالمها الخاص عصي على الكشف . كانت سرا له طقوس ويكاد يقتل فضول من يحاول التغلل فيه. لم تترك مساحة لأي متطفل أو لمن يحاول التقرب منها، حتى النادل الذي له كل الجرأة – بحكم عمله- لم يكن بقادر على التطفل معها، فقد حيدته منذ البداية وحصرت كلامها معه فى جمل محددة عندما تقرر مغادرة المقهي فقط لحظة دفع الحساب . أما خلال جلستها أو حتى لحظة قدومها فكانت الكلمات بالنسبة لها مجرد سراب لايجب تتبعه وإلا أفضي لثرثرة ستضيع فيها طقوسها المحرمة. تلمس فنجان القهوة بعد ساعة من وضعه على الطاولة، وتنتهى من رشفة فى نصف ساعة أخري، وبطوال جلوسها تحتسي ثلاثة فنجايين من القهوة. هي تفضل القهوة الباردة. وتفضل أن لاتتجاوز رقم ثلاثة فى عدد قهوتها اليومية. أحياناً تضع قدما فوق أخري، وأحيانٍ أخرى تكون قدميها فى وضع محايد كأفكارها، حركات القدم بمثابة حركات انفصالية ثورية عن بقية الجزء العلوى الذي يبدأ من محيط خصرها. فقط الرأس متاهة تغوص فى حجاب وغلاف من قوس قزح حيث"طُرحتها" المميزة . شكل رأسها لاينم عن انتمائه لها، حيث يوحى لك بالابتعاد عنها، وكثيراً ما كان هذا الحجاب مبرر لصديقتى المفضلة عندما نصحتني بضرورة البعد عنها وتركها لحالها فمن المؤكد- من وجهة نظر صديقتي- أنها لن تختلف عن الآخريات فى الغوص فى أمراض نفسية معقدة لا تعد ولا تحصي، صديقتي أكن لها التقدير فى معرفة الأشخاص والتكهن بتصرفاتهم، ولكن فى هذه الحالة الخاصة بدأت أشك فى قدراتها. صديقتي تستطيع القول عنها ببساطة أنها جنون له ساقين يمشي على الأرض، فهى تعيش حالة غريبة طوال الوقت ولها متطلبات خاصة جدا فى المأكل والشراب والملبس وأيضا فى السماح لآخرين بمحادثتها، كانت حاسمة وحادة فى لفظ كثيرين ممن حاولوا التقرب منها، ولكن الوضع هنا يخص التى تجلس بمفردها دائما بالمقهي وليس صديقتي، لذاجمعت بعض المعلومات عنها من خلال التخمين ومن خلال استرسال النادل فى الحديث عنها ومن خلال السير ورائها عندما تقرر مغادرة المقهي. ماتوصلت إليه من معلومات كان تافها وموحيا بالفشل، ولكن بيوم فى أواخر العام قررت التطفل والدخول فى عالمها بمنطق "لاتراجع ولا استسلام" وبالفعل جلستُ معها وسألتها مباشرة ماذا تعمل وفيما تفكر ولماذا دائما هى وحدها بالمقهي؟ لم تجب عن سؤال من أسئلتي المتلاحقة وقالت "سأقص عليك قصة صغيرة ومن بعدها أرجوك أن تذهب وتتركنى لحالي " فقلت "اتفقنا". قالت "مخرجة بقناة ما تنتهي من عملها وتذهب للمقهي لتري أثر الفراشة".قلت"لم أفهم".قالت " هذا شأنك أنت والآن جاء دورك فى الإنصراف من فضلك".فتحركت وبداخلى اجابتها تقتلني . "لتري أثر الفراشة" جملة استطعت انتزاعها منها ولكن لاتدل على شيء يشبع فضولي، ونحن فى المقهي ولسيت هناك فراشة ولا أثر لها لتتبعه!؟ إذن ماهو الموضوع ولماذا لا أستطيع الوصول لنتيجة منطقية ؟. قابلت صديقتي واخبرتها بجملة الفتاة فضحكت !! وزاد هذا من فضولي، ولكن صديقتي لم تعلق . أسابيع وأن أنظر الفتاة عن بعد وهى كلما نظرت لي ابتسمت .أسابيع وأثر الفراشة لم يبارح ذهني.أسابيع وأنا أقول لنفسي لابد وأنها مجنونة فحسب، ولم يخطر مطلقا ببالي أنني سأمر بما مررت به معها!!عصي على السرد إعادة حكى ما مررت به معها، ولكنه ممتع حقاً. النادل لم يصدق مارآه عندما قررت عدم الجلوس بطاولتها وأشارت له بإحضار القهوة والشيشة بطاولتى. جلستْ وهى تبتسم وقالت"هل وصلت لأثر الفراشة". قلت "لا". قالت كما توقعت واعتدلت بجلستها كمنتصرة فى رهان ما ثم قالت"أَثر الفراشة لا يُرَى ..أَثر الفراشة لا يزولُ..هو جاذبيّةُ غامضٍ..يستدرج المعنى، ويرحلُ..حين يتَّضحُ السبيلُ..هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ..أشواقٌ إلى أَعلى..وإشراقٌ جميلُ..أَنت، منذ الآن، أَنت" قطعتْ أدائها الشعري قائلا" اعرف أنها أبيات من ديوان أثر الفراشة للشاعر محمود درويش" قررتْ أن توقف غبائي وتسرعي!! ثم وضعت يدها على فمى وأكملت حديثها قائلة" شكرا على المعلومة ولكن مالاتعلمه أنني من هناك حيث الفراشات لها أثر وحيث الحب يقابله الموت وحيث الأهل موج فى البحر والأصدقاء رُحلٌ فى غياهب السفر، أنا لست من هنا ياصديق التسرع فى الفهم،أنا لست من هنا يارجل لايري. أنا هاربة منه ومني .أنا رائحته فى غبار المسافات وأنا أتتبعه فى دخان النرجيلة. أنا لا حاضر لى ولا مستقبل . أنا من عرفت الضوء ومن تخشاه . أنا الفراشة وأنت أثرها. لاتقاوم ولا تستغبي ودع مافيك يصاحبك وانتظر، أنا يارجل طريق لايؤدى إليك ولكنه من الممكن أن يقودك لأثرك ..هل تفهم؟"قلت" ربما".قالت" أنا لم أكن بالمقهي مطلقا أنا كنت المقهي والمطلق معا..هل تفهم؟".قلت "لا". قالت" حسنا..لابد لى من الذهاب ولن تراني ثانية بعد اليوم بسبب رحيلى الاضطراري المفاجيء؟.علقتُ" أوكى". ذهبتْ وبقي كلامها معى بطاولتي. هنا فاجئني النادل وعلق" لابد لك من الذهاب لطبيب نفسي فأنت تتخيل أفرادا وتطلب لهم مشروبات وتحادث أخرين لاوجود لهم بالحقيقة وقد تعبتْ كل "الوردية" من ذلك العبث ومنك، ستكف عن هذا الهراء أم تبحث عن مقهي أخر؟؟" أجبتُ " نجحتُ يارجل ولقد أمسكت بالفكرة جيدا وأدركت أننى مستعد الآن لكتابة روايتى الجديدة – المعنونة ب "التى تري أثر الفراشة"- التى تخيلتها عن فتاة منفية من وطن محتل لها أثر الفراشة ، يلاحقها كاتب مجنون بمقهي شعبي. تلك الرواية التى حاولت كتابتها منذ ثلاثة أعوام مضت وفشلت. وصل النادل لذروة جنونه وصرخ "مش ممكن كل مايكتب رواية يقرفنا معاه..دى شغلانة .....حاجة تزهق".