من وحي اللحظة ومرور واحد وستين عاما على ثورة 23 يوليو 1952، ومن وحي رسالة كنت قد بعثت بها إلى صديق تلخص رأيي فيما هو منسوب ل'حماس′ كمنظمة محسوبة على الإخوان المسلمين، وبدأتها بالقول: ‘تعلم موقفي المنحاز للقضية الفلسطينية ليس فقط من منطلق عروبي قومى إسلامي مسيحي، إنما من موقف إنساني تقدمي وجودي' على أساس أن اغتصاب فلسطين كان نقطة انطلاق حاسمة في مخطط الإبادة الثقافية والحضارية والعرقية للعرب، والمجموعات الثقافية المتآخية معهم، وذلك من بداية تنفيذ المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر، وإن كان في الحقيقة منذ نهاية القرن الثامن عشر مع غزو نابليون لمصر والشام. وإذا كانت هناك مشكلة مع ‘حماس′ ليس معناها أنها مع عموم الشعب الفلسطيني، ونحن مع ‘حماس′ كمقاومة، وحين تمتهن السياسة وتنشغل بالمشروع الإخواني فسوف تختلف النظرة، هنا يصبح الأمر مختلفا ومختلا فهل يحق لبلد مغتَصَب أن يقفز قفزة كبرى إلى المجهول قبل أن يحرر كامل ترابه، خاصة إذا ما علمنا أن دراسات الاجتماع السياسي تصف ‘الخلافة' بالنظام الامبراطوري يقام بالجبر والقوة من أجل التوسع والحاجة إلى مساحة سياسية وجغرافية ومجال حيوي أكبر من مجال الدولة الأم (سواء كانت دولة مصر القديمة ‘الفرعونية' أو دولة المدن اليونانية التجارية، أو دولة القبائل واتحاد القبائل فيما قبل ظهور الدولة الحديثة)، وعندما نتكلم في التاريخ نجد أنه منذ الفتنة الكبرى تؤخذ بيعة الخلفاء بحد السيف، وكان مثلها الصارخ بيعة يزيد بن معاوية كولي للعهد، وحول الأمويون الخلافة إلى ملك عضوض. ومع الاكتشافات الجغرافية ظهرت امبراطوريات استعمارية؛ تتوسع بالإبادة والإحتلال والتهجير القسري والتمييز العنصري والنهب المنظم، وقضت على آخر خلافة (امبراطورية) إسلامية بعد الحرب العظمى في بداية القرن العشرين، وكي يكون الطموح السياسي للجماعات والأحزاب السياسية الإسلامية متوائما مع العصر فمن حقها العمل من أجل دولة كبرى لا تستنسخ النمط الاستعماري الراهن، ومن حق الدولة المأمولة تبني المشروع الوحدوي أو الاتحادي أو التعاهدي (الكونفدرالي) برغبة المواطنين وبالآليات الديمقراطية، وهو شيء شبيه بما تسعى إليه الحركة القومية العربية، وقد تمكنت على مدى العشرين عاما الماضية من بلورة المشروع النهضوي العربي بمحاوره الستة؛ الوحدة العربية لمواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني، والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب. ان الشكل الوحدوي المقصود لا يكون على حساب الدين كعقيدة؛ إنما قد يغير في بنية الإسلام السياسي، فيعود إلى أصل الرسالة القائمة على التوحيد، وهو في جانبه السياسي والجغرافي ينبذ الفُرقة ويرفض التقسيم، ولا يقبل بثقافة الانغلاق والغيتو. والثقافة الوحدوية تخفف من تأثير الفتن، وتتصدى لمخطط ‘التدمير الذاتي' الذي تتولاه فرق وجماعات محسوبة على الإسلام السياسي. وفي مناخ الفتنة روج بعض إعلاميي ‘حماس′ ادعاء بأن ناصريي مصر سيتصدون لمرسى إذا ما الغى معاهدة ‘كامب ديفيد'، وكان خوفه منهم منعه من إلغائها!!، وهي فرية لا تصمد أمام الحقائق المعروفة للرأي العام المصري والعربي والدولي، وكل الدوائر المعنية بالشأن المصري تعلم أن الناصريين أكثر القوى السياسية والحزبية المصرية راديكالية وتشددا ضد الدولة الصهيونية، وقضية فلسطين لديها خط أحمر، ولا تقبل بأقل من التحرير الكامل من النهر إلى البحر. والتاريخ القريب يسجل للناصريين أنهم الوحيدون الذين قاوموا الوجود الصهيوني في مصر بالسلاح الذي لم يوجهوه ضد عربي؛ مصري أو غير مصري، فهم يعرفون عدوهم وعدو أمتهم حق المعرفة، ولخصتها ثورة 23 يوليو على لسان قائدها عبد الناصر ‘إن عدوي وعدو أمتي هو الاستعمار والصهيونية والرجعية المتحالفة معهما'. وقاوم "التنظيم الناصري المسلح" الوجود الصهيونى، وتصدى تنظيم "ثورة مصر" الذي اتهم فيه الراحل خالد عبد الناصر ونور السيد؛ المعروف إعلاميا بمحمود نور الدين؛ تصدى للصهاينة بالسلاح أيضا!. بجانب ما جرى للسفارة الصهيونية بالقاهرة بسواعد شباب الثورة، وقد كنت شاهد عيان كمشارك في جمعة تصحيح المسار (9 سبتمبر 2011) بميدان التحرير ورن جرس المحمول على صوت سيدة تقول تعالوا فورا فنحن أمام مشهد تاريخي لا يجب أن يفوتكم، وذهبنا إلى مبنى السفارة الصهيونية، وبالفعل كان المشهد كما قالت تاريخيا، حتى في تفاصيله، والطريقة الهندسية التي صدعت جدران حماية السفارة، وقام شباب المهندسين بدور متميز، وبدلا من الحاجة إلى آليات ضخمة لتكسير الكتل الخرسانية، ربطوا الاعمدة الحاملة للألواح الخرسانية بحبال قوية، وشدوها في اتجاهات معاكسة، فاتسعت المسافات بين الألواح الخرسانية، وتفككت دون إصابات أو خسائر في الأرواح، وفُتح الطريق أمام المقتحمين، ومن يومها لا تجد السفارة مقرا، وسفيرها يمارس عمله من منزله في ضاحية ‘المعادى'. ووقتها كان الإخوان مشغولين ب'التمكين'؛ يساعدهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق!! وكانت المظاهرات المنادية باستقلال القرار الوطنى تأتي مقرونة بتعديل وإلغاء معاهدة ‘كامب ديفيد'. ما بيننا وبين إعلام ‘حماس′ هو الموقف من فلسطين؛ كحق غير قابل للمساومة أو التنازل أو التفريط. وإذا ما عادت ‘حماس′ إلى حضن المقاومة فستجد ثوار مصر وعمقهم الشعبي فى مقدمة الداعمين والمناصرين لها. وعلى المرء ألا ينسى أن فكرة ثورة الضباط الأحرار اختمرت في فلسطين أثناء حصار الفالوجة 1948، وجميعهم حارب فى فلسطين، وكان أنور السادات استثناء، وهو أول حاكم عربي يتصل بالصهاينة علنا ويزورهم ويوقع المعاهدات معهم، وتعهد مرسى بالالتزام بها واستمرار تنفيذها والحفاظ عليها، وكان عربونه ضبط ‘حماس′ ومنعها من إطلاق الصواريخ من غزة صوب فلسطين المحتلة!!. وإذا ما تحرر الإسلام السياسي في فلسطين فستتهيأ الظروف للتحرير. وتجارب العرب المعاصرة تؤكد هذه الإمكانية. ألم تكن الجزائر مستوطنة فرنسية؛ ملحقة بالأراضي الفرنسية، وخلال ثماني سنوات من المقاومة البطولية وحرب التحرير الشعبية؛ تخلصت من المستوطنين الفرنسيين ودانت لأبنائها بعد مئة وثلاثين عاما من الاستيطان وطمس الهوية، وما كان ممكنا بالأمس ماذا يمنع أن يتحقق اليوم؟. وجماعات وأحزاب الإسلام السياسي التي دأبت في غالبيتها على الاستهانة بالأوطان والتقليل من شأن الشعوب، عليها أن تعلم أن الأوطان أوعية للعقائد، وحاضنات للتنوع، وحاميات للمصالح، ومجالات للتعايش والتدافع والتكافل. وفي مصر لا يتحول الوطن إلى ‘غيتو' لعقيدة أو مذهب أو طائفة أو جماعة مهما كبرت وعلت. حماس متهمة من وجهة النظر القانونية، ومع ذلك فالشك يحسب لصالح المتهم، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، وعلينا جميعا أن نحق الحق بالقانون وليس بالتحريض أو العنف؛ القانون العادل يساوي بين المتهمين في الداخل والخارج؛ بدءا من حبيب العادلي وفلول مبارك، مرورا بالمجلس العسكري السابق، وصولا إلى حكم الرئيس الإخواني ‘المنتخب'، الذي شهد عهده قتل واغتيال 154 شهيدا في سنة واحدة من حكم مكتب الإرشاد، ومع ذلك فإن الحاجة ملحة إلى المصالحة؛ لكن على قاعدة المصارحة والمحاسبة، وبدونها يعاد إنتاج ما سبق من خطايا وجرائم. وفي ذكرى ثورة يوليو نقول إذا كانت الوحدة الوطنية في الداخل والعمل من أجل الوحدة العربية عربيا يتم على قاعدة صلبة للعدالة الاجتماعية، فقد أكدت ثورة 30 يونيو على عمق العقيدة الوطنية للقوات المسلحة، وأكدت أن الجيش هو جيش الشعب، بجانب أنها أنجزت مصالحة الشرطة مع الشعب، وبذلك تعزز التحول الأكبر نحو الدولة المدنية الحديثة التي لا إرادة فيها لغير الشعب. وبهذا تُعلق أبواب الغلظة الشمشونية، وتضيق منافذ التحريض الدائم ضد الدولة وتجف روافد الكراهية ضد الشعب، وهذا تحول كشف قدرة الدولة على استرداد دورها الفاعل بين الناس؛ وأصبحت جديرة بحمل صفة دولة الشعب. وتتهيأ الظروف الآن للمصالحة الوطنية بعد أن تكشفت الأمور أمام قطاعات واسعة من أطراف وأنصار الإسلام السياسي، وباتت تدعو لدخول العملية السياسية على قاعدة ‘المشاركة لا المغالبة' وهذا تتبناه أقلام وأصوات محسوبة على الإسلام السياسي، وتلعب صحيفة ‘المصريون' الإسلامية دورا بارزا في التعبير عن هذا الاتجاه، وتعلن على لسان رئيس تحريرها جمال سلطان الاثنين الماضي: أتكلم الآن لأنهم (أي الإخوان وحلفاءهم) يدفعون بالتيار الإسلامي الى محرقة خطيرة دفعاً لثمن أخطاء وانحرافات لم يكن شريكاً فيها، أتكلم الآن، لأن حالة الجنون جعلت الإخوان يدفعون ويروجون لانشقاق الجيش المصري وانقسامه وهو الجيش العربي الوحيد الموجود الآن في المنطقة في مقابل الجيش الإسرائيلي (الصهيوني)، هناك رموز إسلامية مستقلة مثل المفكر الإسلامي مختار نوح، وعبد الستار المليجي الإخواني السابق والأستاذ الجامعي الحالي، وهؤلاء يتواصلون مع فصائل الإسلام السياسي على أسس جديدة وإيجابية تهدف إلى البناء وليس الهدم، وإلى الجمع وليس الطرح، وهم دائمو النصح، لكن ما زال مكتب الإرشاد ‘القطبي' رافضا حتى كتابة هذه السطور، وفي عصور الفتن إما ان تنصح أو تصمت، فالنار المتأججة ليست في حاجة إلى مزيد من الزيت، الذي يزيدها اشتعالا!!