(1) يتحكم جنوب السودان مع دول منطقة البحيرات في أفريقيا في منابع و مجري النيل أساس حضارة مصر و نماءها ، و لذلك تعتبر السودان هي خط الدفاع الأول عن مصر من ناحية الجنوب ، و قد أدرك محمد علي و أبناؤه من بعده هذه الحقيقة الاستراتيجية ، فذهب الجيش المصري جنوبا أبعد من جنوب السودان ، و فتح كل هذه المناطق و ضمها إلي مصر ، و استمرت هذه الوحدة إلي أن استقلت السودان بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952.. و حافظت مصر بعد استقلال السودان علي استمرار العلاقات المتميزة معها صيانة لأمن مصر القومي الممتد حتى منطقة البحيرات ، و ظل هذا التميز في العلاقات خطا أساسيا ثابتا يزن مجري العلاقات بين البلدين و يصحح مساراتها .
(2) تتحكم فلسطين في أمن مصر من الجهة الشرقية ، فهي خط الدفاع الأول عن أمن مصر من جهة الشرق ، و دائما ، كما يثبت التاريخ القديم و الوسيط و الحديث و المعاصر ، كان الخطر الأساسي علي أمن مصر يأتي من الشرق ، و كانت فلسطين بمقاومتها و خطوط دفاعاتها هي المصد الأول لهذا الخطر ، و قد أدرك حكام مصر في كل مراحل التاريخ هذه الحقيقة الإستراتيجية التي توحد أمن البلدين فجسدوا ذلك في وحدة سياسية تجمعهما ، و استمرت العلاقة بين مصر و فلسطين علي مر التاريخ محكومة بهذا الفهم الإستراتيجي ، يوصلهما رباط وثيق حده الأعلى الوحدة و حده الأدنى التنسيق الإستراتيجي ، و كان توجه الوحده هو الغالب في أمر العلاقات بينهما ، أستمر حال العلاقات كذلك إلي أن إكتملت مراحل و بنود المؤامرة الغربية الصهيونية التي بدأت في مؤتمر بال بسويسرا 1798 و انتهت باغتصاب فلسطين 1948 و قيام دولة إسرائيل و حددت الوثائق التاريخية الغربية / الصهيونية الدور السياسي و المهمة الإستراتيجية للدولة الصهيونية في منع قيام وحدة سياسية تجمع كل البلاد العربية ، و إجهاض كل المحاولات الساعية لتوحيد الأمة العربية ، حتى تظل ضعيفة و مهيئة دائما و موضوعيا لنهب مواردها ، و من ثم لا تشكل خطرا علي مصالح و حضارة الغرب العنصرية الاستغلالية ، و لأن مصر هي الأكبر عربيا و سياسيا و إجتماعيا ، و هي الأقدر علي لعب هذا الدور الوحدوي العربي الذي يعتبره الغرب خطرا دلهما علي مصالحهما ووجود الدولة الصهيونية ، لذلك كان هدف السياسة الغربية الصهيونية في المنطقة هو إضعاف مصر ، حدث ذلك في حرب 1956 و في حرب 1967 و في حرب 1973 و في نصوص كامب ديفيد و ما يسمي بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية و في الوثيقة الصهيونية الصادرة عن الاستخبارات الإسرائيلية 1982 لتفتيت مصر و الدول العربية .
(3) أصبحت إسرائيل بدعم إستراتيجي أمريكي هي المسئولة عن هدم قواعد و أساسات بنيان الأمن القومي لمصر ، فبعد أن استولت علي المداخل الشرقية لهذا الأمن مدت نشاطها للإستيلاء أو الهيمنة على المداخل الجنوبية لأمن مصر القومي و من ثم تعدت جهودها إحداث قلاقل داخل الدولة السودانية إلى تفكيك وحدة السودان و تحويلها إلى مجموعة من الدويلات المتناحرة الساعية لطلب الحماية من الدولة الصهيونية لمواجهة الهيمنة العربية على الدولة السودانية و مكوناتها السياسية , و لتنفيذ ذلك تتواجد المخابرات الصهيونية و الأمريكية في جنوب و شرق و غرب و شمال السودان , و تستهدف كل هذه التحركات الصهيونية إحكام الحصار على مصر بالتحكم في منطقة منابع النيل , و لا تكتفي هذه التحركات المعادية للسودان و لكن تشمل تحركاتها كل الدول المطلة على البحيرات العظمى , إن معنى ذلك أن الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية أصبح متواجدا بكثافة في العديد من المناطق السودانية و في منطقة منابع النيل, لقد وضعت إسرائيل أقدامها على خطوط الدفاع الأولى عن أمن مصر في الشرق و الجنوب.
(4) ليس هذا فقط ما حدث , و لكن الأكثر خطورة أن الإدارة المصرية سهلت و ساعدت في إحكام الحصار الصهيوني على مصر , فزيادة في التأمين الصهيوني للجبهة الجنوبية لأمن الدولة الصهيونية فردت على مصر اتفاقية كامب ديفيد و معاهدة السلام 1979 و مجموعة نم الاتفاقيات التي تنظم عمل معبر رفح و بقية المعابر بين فلسطين و مصر , و قد نصت اتفاقية السلام (المزعوم) و أتفاق فلادلفيا على أن تقوم مصر بحماية أمن إسرائيل و منع الإرهاب (المقاومة), باختصار تقوم قوات حرص الحدود المصرية المتفق عليها بأداء نفس المهام التي كانت تقوم بها القوات الإسرائيلية قبل انسحابها من غزة حسب ما جاء في أتفاق فلادلفيا.. لقد أصبحت مصر تحت رهن الإدارة الصهيونية و في خدمة أمنها.
أما في السودان , فقد أقامت الإدارة المصرية علاقات وطيدة مع مؤسس تمرد الجنوب (جون جارانج) ووافقت على فتح مكتب سياسي لحركة التمرد في القاهرة و مدته بالأسلحة اللازمة أثناء الصراع المسلح الذي نشب بين الحركة و الحكومة, و استقبلت الحكومة المصرية جارانج وزوجته في القاهرة و تولت أجهزة الإعلام المصرية تسويقه وزوجته للشعب المصري أثناء ذروة الخلاف بين الحكومة المصرية و السودانية الذي أعقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك في إثيوبيا, و قد قدم الدعم السياسي الاستراتيجي المصري لحركة التمرد في الجنوب دعما استراتيجيا غير مباشر لحركات التمرد في شرق و غرب و شمال السودان, معنى ذلك أن الإدارة المصرية سهلت المأمورية للمخابرات الإسرائيلية للعبث بأمن مصر في الشرق (فلسطين) و في الجنوب (السودان), في الجبهتين لم يتم التميز بين مصالح الأمن المصري الثابتة المتداخلة مع فلسطين و السودان و بين الخلافات السياسية العابرة التي تحدث دائما بين الحكام و الأحزاب و القوى السياسية , و قد ضحت الإدارة المصرية بأمن الدولة المصرية لحساب أمن الدولة الصهيونية و هي تظن أن ما تفعله يعد انتصارا لها في وجه معارضيها في الداخل و الخارج و هو ظن ينم عن الجهل أو سوء النية , لأن هذا العبث أضر ضررا عظيما للثوابت التاريخية للأمن القومي لمصر.
(5) إن هذا العبث بأمن مصر الذي تساهم فيه الإدارة المصرية و ترتب عليه علو شأن الدولة اليهودية (الطائفية)على حساب قيمة و شأن الدول العربية, ساهم هذا العبث في علو شأن النزعات العرقية و الطائفية في كل الدول العربية بما فيها مصر , و من البديهي أن هذا العلو الطائفي يهدد الوحدة الوطنية في مصر و في كل الدول العربية و هذا يضع الأمن القومي العربي و أمن كل دولة عربية و أمن مصر في مهب رياح عاتية مدمرة لا توقفها أبواق النفاق و دفن الرؤوس في الرمال, فلم تكن النزعات العرقية في ولايات كردفان في غرب السودان ولا في ولايات الشرق و الشمال مرئية منذ خمس أو عشر سنوات و لكنها أصبحت الآن مرئية و محسوسة , و منذ عشر سنوات أو أكثر لم تكن هناك دويلة في الجنوب لكن هذه الدولة أصبحت موجودة الآن لها عملة خاصة و بنك مركزي خاص و جيش خاص و مخابرات خاصة و تمثيل دبلوماسي خاص و حكومة خاصة و حدود خاصة متنازع عليها مع الشمال... هل يقرأ رجال الإدارة المصرية اللوحة الاستراتيجية الان في المنطقة؟ هل يقرأون الوضع في العراق و اليمن و لبنان و السودان و الصومال و علاقة كل هذا بأمن مصر ؟ هل يدرس هؤلاء التوترات في سيناء و كذلك التوترات الطائفية و التحركات العرقية في مناطق النوبة في جنوب مصر , المؤكد أنهم يرونها و لكن لا يقرأونها , و الدليل على ذلك أنهم يتعاملون معها بسطوة أمنية و هشاشة بالغة في الرؤيا السياسية لا تتجاوز الجلسات المسطبية و القبلات و موائد الغذاء..أنهم لا يدركون أو يدكون و يتجاهلون-الله أعلم- أن هذه التوترات العرقية و الطائفية نتجت عن تخلي هذه الإدارة عن الثوابت التاريخية و الحضارية و الأمنية لمصر.
(6) و مازال العبث مستمرا , ففي ظل هيمنة الدولة اليهودية على مفاتيح أمن مصر في الشرق و الجنوب قام الرئيس مبارك بزيارة – سميت بالتاريخية – للجنوب, و نحن نرى أن توقيت الزيارة الذي جاء متأخرا جدا عن موعده المناسب , و الظروف التاريخية و السياسية التي تحيط بها قد أفقدت الزيارة 90% من قيمتها الاستراتيجية, إنها لن تستطيع أن تجعل مصر مزاحما أقوى للنفوذ الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة لحساب الأمن المصري, إن ضرب و مزاحمة النفوذ الأمريكي الإسرائيلي بقوة في الجبهة الجنوبية للأمن المصري يتطلب بالإضافة إلى هذه الزيارة ضربه في معقله الأساسي في الشرق في فلسطين و يكون ذلك بالاتخاذ الفوري لثلاث خطوات: الأولى إنهاء العمل بالاتفاقيات بين مصر و إسرائيل و أمريكا ,الثانية إنهاء الحصار المفروض على غزة ,الثالثة دعم خط المقاومة لتحرير فلسطين, باختصار فإن المطلوب هو العودة للثوابت التاريخية و السياسية و الحضارية التي ترسي قواعد الأمن القومي لمصر , إن المدخل لإفلات الأمن القومي لمصر من هذا الحصار الصهيوني هو القانون الدولي الذي يتضمن حق كل دولة في إنهاء العمل بالاتفاقيات التي وقعتها مع طرف أو أطراف أخرى دولية إذا ما تغيرت ظروف توقيعها , و إعمالا لهذه القاعدة ألغى النحاس باشا معاهدة 1936 مع بريطاينا و قال قولته المشهورة "بأسم مصر وقعت الاتفاقية و بأسم مصر أنهيت العمل بها".
لقد تغيرت الظروف في المنطقة : ضعفت أمريكا و قويت إيران,و ضعفت إسرائيل عما كانت عليه من قوة وقت توقيع الاتفاقيات و على شأن المقاومة في فلسطين و لبنان و العراق و الصومال , و أرتفع شأن الطائفية...إن إسرائيل ذاتها خروج على قواعد القانون الدولي , ولا تلتزم بالقواعد القانونية الدولية فهي تمارس الاستيطان و القتل و الحصار و التجويع و تبني الجدر العازلة و لا تقر بحق العودة و تستمر في الاغتصاب و الاحتلال , كل هذه أمور تعطي لمصر الحق في إنهاء العمل باتفاقيات وقعتها تحت قهر الاحتلال , و العودة على ثوابت الامن القومي لمصر .. فهل تملك الإدارة المصرية الإرادة السياسية الوطنية لفعل ذلك و في الوقت المناسب؟ إن مصر ليست ضعيفة كما ردد المتحدث بأسم الخارجية المصرية , إن مصر تمتلك عددا عظيما من الأوراق التي ترفع من شأنها الإقليمي و الدولي و تحط من شأن هذه الدولة اللقيطة ... إن أمريكا و إسرائيل الأن في أضعف أطوارهما فهل يقرأ ذلك أصحاب الفخامة و الجلالة الملوك و الرؤساء العرب ؟و الأهم هل تقرأ الإدارة المصرية ... في الحوار المشترك بين خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس و الدكتور مصطفي الفقي رئيس لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشعب المصري قال دكتور الفقي لخالد مشعل "إن مصر لا تقبل وجود إمارة إسلامية على حدودها الشرقية" فرد عليه خالد مشعل قائلا "إن حماس حركة تحرر وطني" هذا نقلا عن الدكتور مصطفي الفقي عندما كتب عن خالد مشعل في جريدة المصري اليوم عندما تقابل معه في ثنايا زيارة له لسوريا ... إ، الخلافات بين الفصائل الفلسطينية يمكن تهذيبها و تقليمها في إطار استراتيجية للتحرر تضع تحرير فلسطين من مهمات الأمن القومي العربي و الأمن المباشر لكل دولة عربية...و للإدارة المصرية أقول : إن العلاقات بين الفصائل و الخلاف بينهم أهون و أخف بكثير من الخلافات بين حكومة الشمال و حكومة الجنوب في السودان و تستطيع مصر أن تلم هذه الفصائل على الحقوق التاريخية الفلسطينية و تنهي هذا العبث المخرب للأمن القومي لمصر .. أم أن أمن و بقاء الحزب الوطني أهم من أمن و بقاء مصر ؟