وفى هذا المقال نعرض لبعض مواقف الزعيم من خلال وثائق لم تُنشر بعد، وهى مع غيرها مما نُشر، تلقى الضوء على شخصية الرجل الذى تجاوزت شهرته حدود مصر، وأصبح من أبرز الزعماء الذين أثروا تاريخ العالم المعاصر. وبديهى أن عبدالناصر، لم يكن يتصور أن هناك من سيهتم يوما بهذا النوع من الأوراق، التى تحمل بين طياتها موضوعات، تخص مرتبه، ومصروفاته، وعلاقته بوالده وزوجته وأسرته، وما يخص زواج أولاده وبناته، وكذلك الأوراق التى حملت ردوده على شكاوى الجماهير ورسائل المشاهير، والمؤيدين المعجبين والمنافقين والحاسدين وكذلك خواطر العلماء والمبدعين والمستكشفين والمدعين.. إلخ. إذ كان يسجل ملاحظاته وتعليقاته أو تعليماته ثم يقذف بها إلى خارج مكتبه لتأخذ طريقها بعد أن تنفذ تعليماته إلى الأرشيف، الذى عرف بعد وفاته بالأرشيف السرى للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثم صحح اسمه ليعرف بأرشيف منشية البكرى نسبة إلى المكان الذى أتى منه. ومن هنا تستمد هذه الأوراق أهميتها ومصداقيتها، وتساعد على رسم الصورة الحقيقية لشخصية عبدالناصر، بعيدا عن مبالغات أعدائه وأصدقائه. جاء فى واحدة من الوثائق النادرة، التى تتعلق بتشجيع عبدالناصر للصناعة الوطنية، إن عبدالناصر، رفض أن يشترى لبناته أثاثا من إيطاليا. الموضوع كما تشرحه الوثيقة: «إن تاجر أثاث إيطالى، أراد أن يبيع بعض المنتجات الإيطالية من أثاث وملابس، وغير ذلك من مستلزمات البيوت العصرية، وقدر الرجل أن أسرة الرئيس، وكبار العاملين معه، يعدون صيدا ثمينا، وستغريهم بدون شك، بضاعته التى ضمنها قائمته، وجاء الرجل يحدوه الأمل فى أن تبتاع منه السيدة حرم رئيس الجمهورية، ويبدو أنه كان يعرف أن بنات الرئيس «على وش جواز» وبالفعل عرض السيد سامى شرف القائمة، على حرم الرئيس وحسبما ذكره لى السيد سامى شرف فإنه كان يتصور أن الرئيس سيوافق، وأنه سيشترى هو الآخر بعض الأثاث لابنته، ونقل إلى الرئيس القائمة وعليها اختيارات حرمه، وقد لاحظ أن ما اختارته كان متواضعا جدا، وكان الأقل سعرا من بين محتويات القائمة، وأنها سجلت أعلى القائمة، تخاطب زوجها أن ما اختارته «لتجهيز البنات». أما السيد سامى شرف فلم يختر شيئا حيث لا يوجد أثر فى الوثيقة لذلك، وعلى ما يبدو أنه انتظر رد الرئيس، وكانت المفاجأة حيث جاء رد الرئيس قاطعا، وبكلمة واحدة، فى أعلى القائمة وتحت كلمة حرمه «لتجهيز البنات» كتب «لأ»، وبالطبع الكلمة لا تفسر سبب الرفض، وإن كانت الهمزة تعنى الرفض القاطع. وبسؤال السيد سامى شرف عن سبب الرفض أكد أن عبدالناصر كان يرى أن بناته مثل كل بنات مصر، وأنه وكل العاملين معه فى رئاسة الجمهورية، قدوة يحتذى بها، وأنه يجب تشجيع الصناعة المصرية المحلية، وأضاف سامى شرف أن عبدالناصر جهز بناته وأنا جهزت ابنتى مثل كل بنات الطبقة الوسطى الصغيرة. وفى وثيقة أخرى سجل الرئيس ملحوظة على إسراف والده فى استخدام السيارة المتواضعة التى اشتراها له بالتقسيط، ويتساءل أين يذهب والده ليستهلك كل هذا البنزين، وكانت أقساط السيارة والبنزين الخاص بها وكل نفقاتها تخصم من راتب الرئيس، ويبدو أن الملاحظة كان لابد من إبلاغها لوالده، وبالفعل أبلغ، وغضب الوالد، وترك السيارة، وذهب إلى محطة القطار فلم يكن يتصور أن ابنه رئيس الجمهورية، يعاتبه على «مشاويره» التى يقوم بها لزيارة الأهل. وانتهى الأمر باللحاق بالوالد ومصالحته. وفى ملف كامل حمل التماسات، من زوجات بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين، الذين اصطدموا بالنظام، واعتقلوا، طالبن بمساعدات مالية من الرئاسة، حتى تتمكن أسرهم من مواجهة أعباء المعيشة وتعليم الأولاد، وبعضهن أكدن أنهن لا دخل لهن بما فعل الأزواج. وكانت تأشيرة عبدالناصر إنهن بالفعل لا دخل ولا ذنب لهن وتُصرف المساعدات فورا ودون تأخير. وفى وثائق أخرى اتضح أن الخصومة السياسية لم تؤثر على مواقف عبدالناصر الإنسانية، تجاه الإخوان أو الشيوعيين أو أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار الذين اختلفوا معه، والدليل على ذلك أن الوثائق تزخر بأوامر صريحة وواضحة بتقديم المساعدات المالية للواء محمد نجيب ول «يوسف منصور صديق»، بعد اختلافهما مع مجلس قيادة الثورة فى الأزمة التى اشتهرت بأزمة مارس 1954. لقد استحق عبدالناصر حب الجماهير التى استفادت من إنجازات الثورة، كما استحق عداء الطبقات والقوى السياسية التى وقفت الثورة أمام جشعها وأطماعها، ومن بين الأوراق التى لم تنشر بعد أزجال وأشعار ورسائل مديح لأقلام عربية ومصرية بل وغربية، كثير منها لأشخاص عاديين، عبرت عن إعجابها وحبها للزعيم منقذ الجماهير من الفقر والجوع والجهل، وأمل الأمة العربية فى غد أفضل بلا استعمار ولا استعباد، من ذلك أبيات ارتجالية جاءت من الأردن يوم 22 يونيو 1959 يقول صاحبها: «عزت بك العرب أقواما وأوطانا/ فدمت للعرب بعد التيه معوانا/ جمال زين المعالى بجدتها/ لكم رفعت لنا بين الورى شأنا/ فأنت لم تأل الجهاد ولم/ تلن قناة وقد جابهت عدوانا/ يابن الكنانة يا فخر العروبة يا/ من شاد للمجد والعلياء أركانا/ لله أنت فقد جددت غابرنا/ وقد أعدت لنا العز الذى كانا/ لله أسأل أن يبقيك قائدنا/ إلى المعالى تعالى الله سبحانا». وأخرى من مواطن مصرى كتبها يوم 23 ديسمبر 1964 جاء فيها: «يا باعث المجد الأثيل مؤزرا/ حبات قلبى صغتها أشعارا/ ومتى تفى الأشعار فى وصف قائد/ المجد تحت لوائه قد سارا/ دم لى للعالمين ذخيرة/ تروى النفوس صغارها وكبارا/ يا رافعا علم العروبة عاليا/ حييت رمزا للعلا ومنارا». وأخيرا ما أحوج مصر العزيزة اليوم إلى زعيم فى قامة جمال عبدالناصر، يتعلم من تجربته، ويعيد إليها مجدها الغابر على حد قول الشاعر. حسب رواية الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، سمح له جمال عبدالناصر، بأخذ صور من وثائق الدولة، لأنه كان يشعر أنه سيموت مبكرا، قبل أن يكتب مذكراته، وأن هيكل سيعيش بعده ليروى للأجيال تاريخ الثورة، ومع أن هيكل نشر الكثير من وثائق ثورة يوليو، خاصة ما يتعلق منها بسياسة مصر الخارجية، وبقصة صدام الثورة مع الغرب، إلا أنه لا يزال هناك الكثير مما لم يكتب بعد عن الثورة وشخصية جمال عبدالناصر.