رغم كل التجاوزات الصغيرة التي شابت عملية إجراء الاستفتاء والأخطاء الكبيرة للبعض في حشد وتعبئة الناس للتصويت بنعم فإنها جميعا تتقزم أمام مفاجأة ظهور المارد المصري العظيم الذي خرج فجأة من “القمقم” ليؤكد ان شعبنا مهيأ تماما لممارسة الديمقراطية بل وقادر ايضا على التفوق في اول امتحان لها واضعا نفسه وفى خطوة واحدة في مصاف الشعوب التي ولدت وفى فمها ملعقة الديمقراطية رغم انه حرم من تذوقها اكثر من 60 عام. فهذه الثورة “التصويتية” العظيمة نجحت في وضع وتثبيت اول حجر اساس في طريق الديمقراطية وبسرعة فائقة حتى قبل ان ينتهى من اسقاط بقية اركان النظام مما يكشف عن مدى لهفة شعبنا الجامحة لممارسة الحرية قبل ان ينتهى من تحطيم كل القيود التي كبلته وزورت ارادته. ورغم ان نتيجة اول امتحانات الديمقراطية لم تأتى في صالح من قالوا لا للتعديلات – وكاتب هذه السطور واحد منهم- فانها ايضا لم تات في صالح من قالوا نعم في المقام الاول بل جاءت في الجوهر لصالح من قالوا “نعم” و”لا” حيث ان تحالفهم في الذهاب لاستفتاء ادى دون ان يدروا الى تدشين ولادة الحرية في ربوع وطننا لتشب على قدميها في مواجهة اعدائها الحقيقيين ممن لا يريدون لها ان ترى النور اصلا او على الاقل لا يستطيعون العيش في كنفها ، فيكفى ان هذا الاقبال الجنونى على الاستفتاء قد اكد للمجلس العسكرى بطريقة مباشرة او غير مباشرة ان المصرين بعد اسقاطهم لحكم مبارك الديكتاتور لن يقبلوا الا ان يعيشوا في ديمقراطية كاملة ، قادرون على ممارستها بطريقة متحضره وبالتالى فلا مناص امام العسكريين غير العودة الى ثكناتهم بأسرع ما يمكن دون تباطؤ وايضا انهاء حلم بعضهم في الحصول على دعم قوى مدنية قديمة او خلق قوى جديدة تدعم بقائهم في الحكم او تسمح لهم بالتدخل المستقبلى في الحياة السياسية. ومن جانب اخر فأن هذا الاصرار للوقوف بالساعات تحت الشمس الحارقة للتصويت انهى تماما والى الابد دور وزارة الداخلية التاريخى في تزوير ارادة شعبنا فمعظمه اثبت عمليا انه مستعد لتحمل كل الصعاب للتعبير عن رأيه بحرية وبالتالى فلن يقبل بعد اليوم بيع صوته او التنازل عن حقه في التصويت وهذا يمثل بالفعل انتصارا ساحقا وسريعا لم يحلم به اكثرنا تفائلا قبل الاستفتاء ، فبدءا من اليوم لن يجرؤ اى وزير داخلية قادم وضع نفسه في خدمة اية حكومة لتزوير الانتخابات لصالحها بل سيكون دوما على الحياد وان لم يلتزم بذلك فسيكون مصيره السقوط ومعه حكومته المزورة. فهذا الاستفتاء وبغض النظر عن نتيجته وللمرة الالف انهى عصر تزوير الانتخابات بالضربة القاضية الخاطفة ومعه انتهى زمن من احترف الترشيح لتحقيق مصالحة الخاصة على حساب مصالح الناس استنادا الى قدراته المالية وعلاقاته السياسية وتأجيره للبلطجية الذين سيتعرضون من الان للبطالة الدائمة. ان هذا التطهير الكامل لتراب وطننا من كل المعادين والمتربصين بالديمقراطية واعوانهم بضربة واحدة استفتائية وليست انتخابية يمثل انتصارا هائلا بتكلفة سياسية تكاد تقترب من الصفر ففوز “نعم” وفشل من قالو “لا” لا يمثل الا معركة رمزية او بروفه على قدرتنا على ممارسة الحرية ، فالواقع ان الجميع متفق على ضرورة وضع دستور جديد ، وليس هناك خلاف على جوهر التعديلات في ذاتها بين الطرفين ولكن الخلاف كان حول التوقيت والملائمة السياسية في حياتنا الدستورية الجديدة التي اتفق الجميع على ان تصاغ عبر دستور ديمقراطى. ولهذا فليتذكر كل من قال نعم للتعديلات ومن رفضها ان المنتصر الحقيقى في هذا الاستفتاء هى الديمقراطية والتى استطعنا ان نتنسم جميعا عبيرها العطر والتى لن نتوقف عن تفوحها به لملأ صدورنا طالما آمنا جميعا انه في حلبتها تدار معارك خلافية عابرة ومتجددة لا يتساقط فيها قتلى ولا تعرف ظاهرة المهزومين دوما ولا الفائزين الى الابد ناهيك عن انها ترفض منطق حروب الابادة الدائمة للمخالفين في الرأى فقوتها وبقائها يعتمد على الاعتراف بالأخر وليس نفى وجوده كما نفى مبارك وجودنا فنفينا وجوده بالمقابل وهذا هو الفارق الجوهرى بين مانريد ان نعيشه في وطننا الجديد وبين نظام مبارك البائد. فهل سيتعظ البعض فيتوقف عن استدعاء ديكتاتوريته بعد رحيله والا سيكون مصيره مقعد بجواره في قطار الا عوده.