نعرض اليوم الجزء الأخير من دراسة " بناء الحدود الشرقية وأمن مصر القومي " للدكتورة ألفت أحمد الخشاب، الباحثة فى الدراسات السياسية والتاريخية و العلاقات العربية – العربية ، والتي تنشر بالتعاون مع المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية. وكنا قد عرضنا فى الاجزاء السابقة علاقة سيناء بالأمن القومى، و الأسباب التى دفعت بريطانيا لبناء الحد الشرقى لمصر، وتحديد المفاتيح الاستراتيجية لشبه جزيرة سيناء وأهم المراحل التاريخية التى مر بها بناء هذا الحد ،وخط "ام الرشراش - رفح ". وفى هذا الجزء نتناول خصائص " خط الحدود الشرقى المصري " وكيف تحول من حد إداري إلى حد سياسي يفصل بين مصر وفلسطين، ما أدى الى تغير وضع مصر السياسي . وأوضحت الدراسة أن موقع الدولة الجغرافي وثرواتها المتعددة والمتنوعة يحدد مستوى تهديد الأمن القومي ويحدد مستوى التأثير والمواجهة، لذا فإن الإرادة السياسية للدولة والقوة الشاملة، إضافة إلى عناصر أخرى هامة هي الضمانة الحقيقية للمناعة والسلامة، وتؤكدعلى أحقية مصرالتاريخية الأكيدة عبر وثائق التاريخ وبالمستندات القانونية في حدها الشرقي من علامة رقم (1) إلى (91) بلا منازع ، حيث أن شبه جزيرة سيناء لم تكن يوماً غير مصرية..فإلى الجزء الأخير من الدراسة:- خصائص خط الحدود الشرقي المصري: بناء على نص اتفاقية 1906، وعلى دراسة الوثائق البريطانية الخاصة بمفاوضات التعين والتعليم، وبرصد العملية الفنية الطبوغرافية يمكن تحديد بعض خصائص هذا الحد ، بداية أكدت الاتفاقية على الطبيعة المستقيمة للخط تقريباً، وأن أية انحرافات مهما بلغت محدوديتها، فقد كانت محل نقاش وتفاوض توفيقي وبين طرفي الاتفاقية، مما أضفى عليها سمة الرضا والقبول. أقيم مبدأ الخط في الشمال على أرض سهلة بدأ من منطقة رفح حتى رأس الردادي، وكلما اتجه الخط للجنوب، كلما اشتدت وعورة الأرض، لذلك فإن الخط في الجزء الجنوبي كان يسير على قمم الجبال والمرتفعات. راعي فريق العمل الفني القواعد الفنية المعمول بها دولياً من حيث الرؤية المتبادلة بين المحطات الفلكية على طول الخط وعددها ستة عشر محطة. ولابد من الإشارة إلى أن الرؤية المتبادلة كانت بين المحطات الفلكية وليس بين العلامات الحدودية التي تم الاتفاق على مسارها. وقد حرص هذا الفريق على إثبات الرؤية المتبادلة باستمرار معيار هام وفق المادة الثالثة للاتفاقية، ولكن مع تغير المعالم الجغرافية، وبروز سلسلة الجبال والمرتفعات، توقف عن إثبات هذا المعيار باعتبار أن التضاريس الجغرافية تقوم بهذه المهمة. كما قدم الفريق تقريراً فنياً وعملياً كاملاً شمل تحديد إحداثيات تلك المحطات الفلكية التي عاونت على بناء الخط في مرحلة تالية، وتجدر الإشارة إلى أن تلك المحطات ليست نقاط حدودية. طبيعة هذا الحد الشرقي: إن هذا الحد هو خط إداري فاصل بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وشبه جزيرة سيناء، فقد أصرت الحكومة العثمانية على تسميته بالحد الفاصل وليس حدوداً، بحكم الوضعية القانونية للدولة العثمانية صاحبة الملكية ، ورغم هذه التسمية "خط إداري فاصل" إلا أن مفاوضات التعين والتعليم، ومفاوضات توقيع الاتفاقية، وتبادل الوثائق والخرائط الموقعة من الطرفين- المصري والعثماني- تشهد بأنها إجراءات تتم بين دول، وليس بين تابع ومتبوع، وبالتالي فهي ترقى إلى مستوى الاتفاقيات الدولية. أيضاً جميع إجراءات العملية الطبوغرافية تمت وفق إجراءات عملية تعين وتعليم الحدود السياسية بين الدول. ومما لاشك فيه، أن هذا الحد الإداري الفاصل، اكتسب مناعة ووضعية قانونية بفضل المادة السابعة التي ضمنت سلامة الحدود من التجاوزات أو التعديات بجميع الأشكال ، أيضاً لاشك أن المادة الرابعة والخامسة التي أصرت على المحافظة على الحد وصيانته وتجديد أعمدته بحضور طرفي الاتفاقية، مما أكسب الحد الفاصل صنعه الاستمرارية والدوام. ولابد من الإشارة إلى أن عدد العلامات الحدودية 91 علامة متبادلة الرؤية على خط الحد من رفح على البحر المتوسط في فبراير 1907 إلى طابا على خليج العقبة 31 ديسمبر 1906 على مسافات تتراوح بين نصف كيلو متر وثلاثة كيلو مترات. وقد تابعت السلطات المصرية صيانة العلامات الحدودية منذ نوفمبر 1908، وجميع عمليات الصيانة والإصلاح كانت تتم بحضور السلطات المصرية والعثمانية، إضافة إلى إنتاج خرائط لشبه جزيرة سيناء بالمسح التفصيلي لها على أساس القياسات الهندسية المختلفة. تغيير وضع مصر السياسي: بإعلان بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية في 31 أكتوبر 1914، واجهت بريطانيا مشكلة الوضع الدولي لمصر، فكان لزاماً عليها أن تجعل تواجدها ذا صفة شرعية، أي صفة قانونية لها تبرر تواجدها واحتلالها لمصر. لذلك قررت فرض الحماية البريطانية على مصر مع إبقاء الحكم في أيد المصريين وتحركهم السلطات البريطانية، وعينت معتمداً بريطانياً لمصر "السير هنري مكماهون" وبدلت اسم الوكالة البريطانية إلى "دار الحماية البريطانية" ، وأعلنت الأمير حسين كامل سلطاناً على مصر في 20 ديسمبر 1914. وقد تحول تلقائياً هذا الحد الإداري الفاصل إلى حد سياسي يفصل بين مصر وفلسطين. والسؤال هل تم اختبار فاعلية الحد الإداري الفاصل ؟ لقد أثبتت الإدارة البريطانية بقيادة اللورد كتشنر أثناء الحرب الطرابلسية عام 1911، أن الحد الإداري الفاصل، اكتسب صلابة بفعل الاتفاقية وبفعل التطبيق. أيضاً نشير إلى موقف حكومة أحمد زيور باشا عام 1926 حيث وافق على طلب بريطانيا بالاعتراف بوضع الانتداب البريطاني على فلسطين مقابل عدم المساس بالحدود المصرية وثباتها. أيضاً يمكن الإشارة إلى ثبات الحدود المصرية وفق اتفاقية 1906 رغم الانتداب البريطاني على فلسطين أي التواجد البريطاني من أقصى نقطة في الحد الغربي لمصر حتى أقصى نقطة حدودية بالحد الشرقي، وأصلا إلى فلسطين بالكامل، وهو ما عبر عنه تقرير قدمته السلطات البريطانية للبرلمان عام 1935 يتضمن توصيف للخط الحدودي الفلسطيني. وهناك العديد من الدلائل السياسية والتاريخية التي تثبت فاعلية الحد الإداري والذي تحول سياسياً إلى حد دولي ينال الاعتراف الدولي. بعد هذا العرض الموجز لابد من إبداء بعض الملاحظات الهامة التي يجب أن تستقر في الفكر والوجدان المصري لأن الأمر يمس بشكل محوري قضية من أهم قضايا الأمن القومي المصري، فبداية التأكيد على أحقية مصر الأكيدة عبر وثائق التاريخ وبالمستندات القانونية في حدها الشرقي من علامة رقم (1) إلى علامة رقم 91 بلا منازع، حيث أن شبه جزيرة سيناء لم تكن يوماً غير مصرية. والنقطة الثانية وهي أن اتفاقية 1906 لم تمنح شبه جزيرة سيناء لمصر إطلاقاً، وإنما أصلت ووثقت هذه الأحقية بوثيقة دولية واعتراف دولي، شأنها شأن جميع دول العالم. والنقطة الثالثة أن هذه الاتفاقية لم تكن صفقة بأية حال، كما هو الأمر في كثير من اتفاقيات الحدود العربية- العربية والتي هي بمثابة قنابل موقوتة تؤثر بشكل سلبي على طبيعة العلاقات. والنقطة الرابعة هي أن هذه الاتفاقية تمت بالتفاوض على أساس توفيقي يراعي مصالح الطرفين ليكسبها تلك الحدود صفة الرضا والدوام، ولابد من التوضيح والتأكيد على أنه في سبيل إنجاز هذه الاتفاقية، فقد تنازلت مصر عن أراضي لها على الجهة الغربية من الحد بهدف تحقيق مكاسب ومنافع متبادلة لطرفي العمل التفاوض. والنقطة الخامسة وهي أن جميع مراحل التعيين والتعليم تثبت بالدليل القاطع الأحقية الكاملة دون منازع على كامل شبه جزيرة سيناء، ومن ثم لا يمكن لأي طرف عربي أو دخيل أن يدعى أحقية بشكل ما في أي جزء من الجناح الشرقي المصري، مما يعني أمرين: أولهما أن السيادة الكاملة لمصر على كامل أراضيها وفق مفهوم الوحدة الإقليمية باعتبار أن سيناء والدلتا والوادي وحده سياسية كاملة، وثانيهما وهي كما أن لمصر حق السيادة بالمفهوم الكامل، فإن عليها حقوق وواجبات، مثلما لدول الجوار. بقيت النقطة السادسة وهي أن بريطانيا قدمت لمصر خدمة كبيرة بالضغط على الدولة العثمانية لفتح باب المفاوضات لعقد الاتفاقية، ولابد من التأكيد على أن هذا الموقف البريطاني يعبر عن مصلحة قومية عليا لبريطانيا، تصادف تاريخياً وسياسياً مع المصلحة المصرية الوطنية. ولابد من التأكيد على أن تلك العملية التفاوضية السياسية والعملية الفنية الطبوغرافية، لم تكن صناعة بريطانية، بقدر ما كانت انعكاساً للحراك السياسي والحراك الاجتماعي داخل المجتمع المصري، وبقدر ما عبرت عنه شريحة عريضة من المثقفين والمتنورين الوطنيين، لها إيديولوجيتها وأجندتها الوطنية وضعت بذور نشوء القومية المصرية، وسعت إلى تحديد الذات والهوية والشخصية المصرية بعيداً عن الهيمنة العثمانية. أن هذه الشريحة الوطنية رجحت وحسمت أمرها على أساس العامل الوطني وليست على أساس الولاء الديني، ويمكننا أن ندعى أن اتفاقية 1906 هي وسيلة لتأطير الوطن. أما النقطة الأخيرة، وهي مرتبطة ارتباطاً شديد التعقيد بمقدمة الدراسة ويمكن تلخيصها في جملة سهلة وواضحة وهي أن موقع الدولة الجغرافي وثرواتها المتعددة والمتنوعة يحدد مستوى تهديد الأمن القومي ويحدد مستوى التأثير والمواجهة، لذا فإن الإرادة السياسية للدولة والقوة الشاملة، إضافة إلى عناصر أخرى هامة هي الضمانة الحقيقية للمناعة والسلامة. وهكذا، فإن هناك تاريخ طويل، أدى فى النهاية إلى بناء حدود مصر الشرقية، بالصورة التى تبدو عليها فى الوقت الراهن، والتي لايدرى كثيرون ممن يتحدثون عنها خارج مصر، أنها ترتبط بالتاريخ بمثل ما ترتبط بالجغرافيا، إضافة إلى أنها في كل الأحوال، قضية إستراتيجية. د.ألفت : المستندات والوثائق التاريخية تثبت ملكية مصرفى حدها الشرقى و شبه جزيرة سيناء بلا منازع