نشرنا فى السابق بالتعاون مع المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية الأجزاء الأربعة الأولى من دراسة "بناء الحدود الشرقية وأمن مصر القومى" للدكتورة ألفت أحمد الخشاب، الباحثة فى الدراسات السياسية والتاريخية والعلاقات العربية – العربية، والتى تناولت أهم المفاتيح الاستراتيجية لشبه جزيرة سيناء، ورصدت تاريخ الحدود الشرقية المصرية، كما تناولت أهمية سيناء وعلاقتها بالأمن القومى، وشرحت مراحل عملية صناعة الحدود الشرقية. فى هذا الجزء نتناول الأسباب التى دفعت بريطانيا لبناء الحد الشرقى، وما الذى جعلها تتخلى فجأة عن موقعها في فلسطين، خاصة وأنها تمثل المسرح الخلفي المباشر لقناة السويس؛ باعتبارها مقر قيادة الدفاع عن المنطقة، هذا بالإضافة إلى أنها تطرقت إلى نقطة فى غاية الخطورة، وهى أن بريطانيا هى التى سعت لبناء وتقوية حاجز بشري عرقي ثقافي مختلف على حدود مصر الشرقية؛ ليكوِّن تناقضاً؛ وذلك لجذب الجزء الأكبر من الاهتمام المصري لأسباب حضارية وتاريخية وأمنية، ولكى يصبح عامل تهديد مستمر، وذلك خير وسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الغربية، وفيما يلى نص الدراسة: لماذا سعت بريطانيا لصناعة الحد الشرقي؟ إن صناعة هذا الحد الشرقي هي نتيجة لتفاعلات وصراعات بين القوى الكبرى، كانت على قمة التفاعلات ثلاث مسائل: - المسألة الشرقية. - المسألة المصرية. - المسألة اليهودية. كانت الدولة العثمانية دولة كبرى وهامة، مثلت ركيزة أساسية في النظام الأوروبي، ولها دورها الاستراتيجي والمحوري في هيكل توازن القوى الأوروبية. كانت الدولة العثمانية بمثابة وسيلة ضبط واستقرار شرق أوروبا والبلقان، وكانت حاجزاً فاصلاً بين روسيا القيصرية التوسعية والدول الأوروبية، كما كانت مانعًا فاعلاً لوصول روسيا القيصرية إلى المياه الدافئة، فضلاً عن أنها أداة رادعة لتحجيم طموحات روسيا في شرق أوروبا؛ لذا فإن سلامة الدولة العثمانية وتكاملها إقليميًّا كانت هدفاً أوربيًّا لمنع الحرب الأوروبية؛ للحفاظ على مبدأ توازن القوى الأوروبية؛ بهدف التحول لعمليات التجارة والتصنيع والاستثمار، والتفرغ للعالم الثاني والعالم الثالث. ولكن مع بداية القرن السابع عشر، ولأسباب داخلية وخارجية، أصاب الدولة العثمانية تدهور وضعف نسبي، وهذا بالتحديد ما يمثل هاجساً أمنيًّا للقوى الأوروبية، وظهر مفهوم المسألة الشرقية، والمقصود به عدم المساس بتكامل ووحدة أراضي الدولة العثمانية، وأن أي مساس بها سيواجه بمنتهى الحسم والعنف عن طريق العمل السياسي والدبلوماسي والعسكري، وذلك ما بدا واضحاً من موقف بريطانيا من الحملة الفرنسية على مصر، وانسحاب القوتين بمقتضى اتفاقية إميان 1801. أما المسألة المصرية، وهي شديدة التأثير والاقتراب من المحظور، وهو مزيد من الضعف والتدهور، ومحاولة الانتفاضة والاستقلال عن الدولة العثمانية. ونشأت المسألة المصرية مرتبطة بوصول محمد علي باشا 13 مايو 1805 لولاية مصر؛ بناء على طلب الشعب المصري، واجتهد باشا مصر"محمد على" في فترة وجيزة أن يقيم دعائم دولة حديثة قوية مركزية، وامتازات مصر في هذه الفترة بالمنعة ومظاهر حضارية حديثة. كان له رؤيته الاستراتيجية التي تنبع من الجغرافيا السياسية، حيث إن المحافظة على الدولة الحديثة تحتاج إلى الوصول إلى جبال طوروس في الشام، وأن يصل إلى أعماق السودان. كان يهدف إلى حماية استقلاله بحدود سياسية لها بعد استراتيجي قائم على عاملين: أولهما العامل القومي والذي مثله العنصر العربي "اللغة العربية، والثقافة العربية السائدة"، والعامل الثاني هو الديني، ويتمثل في المراكز الدينية، وهي مكةالمكرمة والمدينة المنورة ومدينة القدس وبيت لحم. كما برز محمد علي ومصر كلاعب نشط تفاعل مباشرة مع النظام الأوروبي في الثورة اليونانية الشعبية عام 1824، ونجح باشا مصر في التصدي للثورة اليونانية؛ مما جعله طرفاً في النظام الأمني الأوروبي. إن هذه الوضعية أدت إلى تدويل الثورة اليونانية، وإلى مزيد من الانقسام الداخلي الأوروبي. قررت القوى الأوروبية الكبرى إزاحة العنصر المصري العسكري في أوروبا، وبدت خطورة قوة مصر الإقليمية، وتأثيرها - لو استمر - على توازن القوى الأوروبية. استخدمت بريطانيا - العامل الموازن – بالاتفاق مع القوى الأوروبية، وعلى رأسها روسيا، الآلية الدبلوماسية بإرسال مبعوثين إلى اليونان والآستانة؛ لوقف الحرب بين اليونان والدولة العثمانية، كما نشرت أساطيلها في المنطقة. إن التواجد السياسي والعسكري المصري في اليونان، ومحاولة محمد باشا لتحقيق مكاسب مصرية بموافقة أوروبية، كانا سبباً مباشراً في نشوب معركة نافارين البحرية في 20 أكتوبر 1827، والتي انتهت بهزيمة شديدة للأسطولين المصري والعثماني، وكانت الأهداف واضحة من هذه المعركة: أولها القضاء على المتغير السياسي الجديد في أوروبا، وثانيها الحفاظ على تكامل الدولة العثمانية وعدم المساس بها لحين إتاحة الظروف المناسبة لتقسيم تركة الرجل المريض، وثالثها القضاء على القوة الإقليمية الجديدة القائمة على العنصر العربي. أصر محمد علي على مشروعه والوصول إلى جبال طوروس، وبالفعل جهز جيشاً كبيراً ودخل طرابلس، ثم استولى على عكا 1832، ودمشق 1832، وحمص 1832، وهزم الجيش العثماني، واستولى على حلب، ثم بيلان في آخر يوليو. واستغرق دخول الجيش المصري الشام من أكتوبر 1932 إلى 29 يوليو 1933، وهو ما يعني بوضوح التفوق المصري على مستوى القيادة والخطط والأداء. اندفعت الجيوش المصرية نحو قونيه واتجهت نحو كوتاهية، أي على بعد عدة أميال من الآستانة. وتحت ضغط الضعف والتدهور العثماني، وقدرة القوة البازغة، استعانت الدولة العثمانية بعدوتها اللدودة روسيا القيصرية، وهو ما دفع القوى الأوروبية الكبرى لمواجهة خطورة مصر، وضعف الدولة العثمانية، وتحجيم روسيا القيصرية ودورها المساند لها؛ مما سيؤدي إلى خلل في النظام الأمني الأوروبي. إن هذه الوضعية الدولية نبهت أوروبا إلى عدة مسائل في غاية الخطورة والأهمية، وأصبحت استراتيجيته حتى يومنا هذا وهمًا: - ضرب المشروع المصري وتحجيم دورها. - عزل مصر. - إنشاء كيان عازل بين القاهرة ودمشق. اتخذت القوى الأوروبية الكبرى موقفاً موحداً تجاه الأزمة المصرية- العثمانية، والتي أسفرت عنها معاهدة 1840 المجحفة، سياسيًّا واقتصاديًّا وتجاريًّا وعسكريًّا. كما استقر في وعي السياسة البريطانية الخارجية على يد "بالمرستون" ضرورة إنشاء كيان بشري عرقي ثقافي مختلف؛ للفصل بين مصر والشام، وهو ما يسمى ب "المسألة اليهودية". هذا الكيان العازل بدأ في ممارسة تواجده الفعلي على أرض فلسطين منذ عام 1882، وبوصول عام 1892 كانت هناك أكثر من عشرين مستعمرة يهودية في مناطق منتقاة ومحددة بدقة. المسألة اليهودية باختصار شديد هي خطايا وأوزار أوروبا، رحَّلتها إلى المنطقة العربية وعلى أرض فلسطين؛ لتكون في مواجهة الدولة الحقيقية منذ القدم- مصر؛ لتكون لها مصدر تناقض وتعقيدات. تلك هي الحقائق التاريخية الحقيقية وراء صناعة الحد الشرقي، إضافة إلى أسباب مصرية وطنية داخلية مثل تنامي المشاعر الوطنية، الهوية الوطنية من خلال عملية حراك سياسي وثقافي- اجتماعي، إضافة إلى التيارات الوطنية التحررية. وبتغير وضع مصر السياسي بعد إعلان بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية في 31 أكتوبر 1914، كانت شبه جزيرة سيناء المصرية مسرحاً للعمليات العسكرية، وكان للمصريين دور هام، دفع ثمنه غالياً أبناء مصر ومن خزائنها. وانتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار بريطانيا، وأعلن الانتداب البريطاني على فلسطين في 6 يوليو 1921، وبدأ تنفيذه في 29 سبتمبر 1923. واحتلت بريطانيا مصر من أقصى نقطة حدودية في الغرب إلى آخر نقطة حدودية في الشرق، وامتد الاحتلال ليشمل فلسطين القطر الملاصق للحد الشرقي المصري، ولكن ظل الحد السياسي الشرقي كما تم تعيينه وتعليمه من نقطة رفح علامة (1) إلى نقطة طابا (91)، دون مساس، وأصبح من ثوابت الخارجية المصرية رؤيتها الثابتة نحو قدسية الحدود، وصيانتها وعدم المساس بها. وظهر في الواقع السياسي الدولي الكيان اليهودي ملاصقاً لمصر، وهو ما يعتبر تهديداً لأمن وسلامة مصر. وبناء على الاستراتيجية التي تم عرضها في ثلاث نقاط، كانت السياسة البريطانية حريصة كل الحرص على مراكزها الدفاعية والاستراتيجية في مصر؛ لذا أصدر المستر "آرنست بيفن" وزير الخارجية البريطانية في مارس 1946 توجيهاً سياسيًّا جاء فيه "لقد وافقت اللجنة الدفاعية الآن على توصيات رؤساء الأركان بأن تستمر قاعدتنا العسكرية بموقعها في مصر، وبأنه لا بد أن نواصل الاحتفاظ بقوات في مصر، وبأنه لو أصبح الدفاع عن الشرق الأوسط على أساس إقليمي أمرًا واقعاً، فإن المقر الرئيسي لا بد وأن يوجد في قناة السويس... في منطقة القناة على أن تكون نواة ومقرًّا رئيسيًّا للمنظمة الدفاعية الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط"، وهو ما ترتب عليه مشروع تأجير منطقة قناة السويس. كما طلب المستر "بيفن" من عدد من الخبراء البريطانيين أن يقدموا اقتراحات من شأنها أمران: الأول تهدئة حالة التوتر في مصر، والثاني الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية الضخمة؛ لذا اقترح السير "ميردوخ ماكدونالد" خبير الري العالمي على وزير الخارجية الذي تولى الطرح على مجلس الوزراء "سلخ منطقة قناة السويسوسيناء عن مصر باعتبارها غير ضرورية لها سياسيًّا أو جغرافيًّا، وتعويض مصر عن ذلك بأجزاء من شمال السودان في وادي حلفا بالذات". وتعثرت السياسة البريطانية في الاحتفاظ بالقاعدة رغم كل الأساليب والضغوطات، ولم يقتنع الشعب المصري بدعاوى أهمية القاعدة العسكرية البريطانية في قناة السويس للدفاع عن العالم الحر، ولا اقتنع باقتراح تأجير قناة السويس 99 عاماً، أو لاحقاً بالاقتراح الأمريكي بتدويل قناة السويس. ورغم ذلك أعلنت بريطانيا في الأممالمتحدة أنها تنوي التخلي عن انتدابها على فلسطين؛ لأنها وجدت أن الوعود المقطوعة للعرب واليهود على السواء في فلسطين لا يمكن التوفيق بينها، وتخلت عن مسئوليتها للأمم المتحدة ابتداء من مايو 1948. مما سبق، وفي الوقت الذي تتمسك فيه بريطانيا إلى أبعد حد بكل مراكزها في المنطقة، بدا غريباً أن تتخلى فجأة عن موقعها في فلسطين، وهي المسرح الخلفي المباشر لقناة السويس باعتبارها مقر قيادة الدفاع عن المنطقة. كما بدا أن بريطانيا وجدت وسيلة جديدة لتنفيذ سياستها في المنطقة. حيث دفعت بريطانيا باصطناع وتقوية حاجز بشري عرقي ثقافي مختلف على حدود مصر الشرفية؛ ليكّون تناقضاً لجذب الجزء الأكبر من الاهتمام المصري لأسباب حضارية وتاريخية وأمنية ويصبح عامل تهديد مستمر، ويكون خير وسيلة لتحقيق أهداف الاستراتيجية الغربية.