تحت نيران الثورة ووهج الغضب .. وسط زحام الموت والصخب ... وجد الاثنان أنفسهما في مواجهة عالم ثائر ، غاضب ، جريح .. عالم أداته غضب صراخه ناري ملتهب ، متأجج منفجر .. الاثنان هما حسنين وضمراوي جنديان في سلاح المدرعات .. عاشا أياما ، شهورا وربما سنوات بلا حرب أو خوف قريب ، وقد صدرت الأوامر بخروجهما مع بقية زملائهما بدافع الإنقاذ السريع لأمن الوطن الذي ضاع وانفلت . وبطلا هذه القصة مختلفان في كل شيء .. نقيضان .. صديقان اتفقت قلوبهما على الصداقة وصيانة العيش والملح ... ضمراوي هو نموذج للإنسان الطيب ، البسيط ، المسالم والذي يراه يتأكد وربما يكاد يجزم انه دخل الجيش عن طريق الخطأ .. فجسده ضعيف لا يحرك في نفس الناظر إليه الرهبة أو الخوف حتى وان ارتدى بدلة سيادة اللواء .. قمحي البشرة ينتمي بها إلى طبيعة بلده وكأنه سفيرا لها في كل البلاد .. إنسان بسيط لم يعرف في حياته سوى التسامح والرضا . أما حسنين فهو صديقه الصدوق الذي يختلف عنه في الشكل والمضمون وكأنهما جاءا من قارتين مختلفتين .. فحسنين شاب يافع ، قوي ، متوسط الطول .. القوة تظهر في وجهه قبل ساعديه .. رجل يعتمد عليه قائد الكتيبة في أصعب المهام وأشقها لقلبه الميت واتسامه بحسن التصرف وسرعة البديهة إلى درجة التقدير والإبهار . خرج الاثنان مع زملائهما ولا أحد يدرك مصيره أو مصير بلده الغارقة في بحر من الفوضى العارمة وقد نال ضمراوي بطبيعة الحال نصيبا لا بأس به من الخوف على عكس حسنين الذي استطاع أن يتغلب على الخوف وقد رأى أنه مقدم على أداء واجب وطني ومهمة مختلفة لم يعهد بها من قبل ، ورغم كل هذا وذاك اجتمع الصديقان وزملائهما على إحساس واحد .. هذا الإحساس كان هو الفخر . افتخر كل واحد منهم بنفسه في داخله .. فخرا كان يظهر في تلك الابتسامة التي تخرج على الشفاه والوجنات لتعلن عن السعادة وتجديد الثقة بالنفس إلى جانب فرحتهما بحب نحو الشعب الجيش واحترامه وتقديره العظيم إليه . *** تفرق أفراد الكتيبة في مناطق مختلفة في أحياء العاصمة ، وفي احد المناطق النائية وقف بطلا هذه القصة يؤديان واجبهما ويحاولان كسر حدة الوقت تارة بالثرثرة ، وتارة بالنكتة التي تخرج في أصعب الظروف بلا إرادة أو وعي . الثرثرة ... كانت هي السبيل الوحيد لقتل الوقت ونحره .. خاصة وأنهما يخدمان في بقعة مستقرة إلى حد ما .. موقع قد لا ينتشر فيه اللصوص بكثرة ، ولذا كانت الثرثرة بينهما هي المخرج الوحيد من الانفجار والإحساس بالوحشة ونحر الوقت نحرا .. فالصمت عالم لا يميل أي منهما إلى القرب منه إلا سهوا ، والموضوعات ليس لها نهاية أو آخر ولكل منهما حياة حافلة بالمشكلات والأزمات المعقدة التي يمكن أن تهد ألف جبل وجبل . كانت أول مرة يريان فيها قاهرة المعز ليس لأنهما لم يرياها قط قبل ذلك ولكن لان ما رآه كل منهما لم يتوقع أن يراه في أي بلد أو أي مدينة في مصر كلها ... الناس تصرخ .. الجرأة اجتاحت الناس واعتلت .. الثورة تصدرت وجوههم وأعلنت .. في صمود غريب وقفوا وقفة واحدة .. في صوت واحد وقفوا يصرخون .. صرخوا في غل وغضب .. أخذت أصواتهم طابعا وطريقا آخرا وكأنهم يحاربون غزوا أو قوة غاشمة احتلت البلاد ، أحس ضمراوي كعادته بالفزع بينما حاول حسنين التذرع بالتماسك وسط ما رآه وأحس به من تضارب وتوتر كان في ذلك الوقت ابرز علامة تصف الشارع والناس . استقر الاثنان إلى جوار أحد المدرعات المنوطة بتأمين وحماية المكان والسكون يتصل ، سكون يستمر في تواصل لا ينقطع .. سكون مستقر في جنح الليل الساكن في ظلام تخلله إنارة الأعمدة الكهربائية في الشوارع الخائفة . *** ومع اقتراب الساعات الأولى من منتصف الليل .. أخرج ضمراوي كعادته آخر ” سيجارة فرط ” لديه ليتقاسمها مع صديق عمره كعادتهما إذا فرغت السجائر منهما ، وبدأ الحوار .. حوارا لم يدور بينهما قط قبل ذلك ، ولم يتوقع أي منهما أبدا أن يدور :- أشعل ضمراوي السيجارة اليتيمة التي لا يملك غيرها وبدأ متسائلا : - مالك يا حسنين . رد حسنين : - يعني مش شايف الدنيا في مصر وصلت لايه . قال ضمراوي بنبرة احتوتها مسحة تفاؤل : - يا عم بكرة تتعدل وتحلو .. روق كده وشدلك نفس . تناول حسنين السيجارة اليتيمة وقال : - أنا مخنوق يا ضمراوي .. مخنوق من كل حاجة .. الناس فرحانة وبتهلل .. طالعة تزعق وتشتم .. بتصرخ وتهتف ضد السرقة والفساد . رد ضمراوي بنبرة الثائر وهو يأخذ السيجارة من صديقه : - الناس اتخنقت يا حسنين وفاض بيها .. الناس ما صدقت تصرخ وتطلع الكبت اللي جواها . قال حسنين : - الناس !!! ... رد ضمراوي باستنكار : - ايوة الناس يا حسنين .. أهلنا وناسنا وأصحابنا .. الناس اللي بتصرخ من الظلم والضياع والوجع .. الناس اللي بتصرخ من القهر والفساد والعذاب .. الناس اللي بتصرخ من البطالة والجوع والألم . سكت حسنين برهة فاسترسل ضمراوي وقال وهو يعطيه السيجارة اليتيمة : - مالك سكت ليه . رد حسنين وعلى وجهه ملامح أخرى غير التي تعلو وجه صديقه وقال : - ممكن يكون عندك حق في كل اللي قلته بس الناس بتهتف ضد الظلم .. بتزعق وتشتم .. بتصرخ وبتثور لكن أنا في وسط ثورتهم وغضبهم نفسي أحس بالاستقرار والأمان .. نفسي الناس تبقى ايد واحدة .. نفسي اخويا مايضربنيش في ضهري .. نفسي المتدين ماياكلش مال النبي .. نفسي ماشفش شياطين الإنس كل وقت وكل يوم .. نفسي ماحدش يتحرش بأختي في عز النهار .. نفسي الناس تخاف على بعضها .. نفسي كلمة الحق تكون بين الناس كلمة شرف .. نفسي الناس ماتموتش الضمير وتدفنه .. نفسي اللي يحلف مايحلفش بربه كدب .. نفسي الناس ماتستغلش الظروف وتقطع في بعضها .. نفسي لما أروح اخلص أي مصلحة ماضطرش ادفع وإلا تقف حياتي والدنيا كلها .. نفسي الناس تخاف ربها وكأنها شايفاه ... نفسي أموت .. نفسي اخرج من الدنيا دي لدنيا تانية ... وبعد كل ده الناس واقفة تشتم وتندد ضد السرقة والفساد ... رد ضمراوي : - يعني إيه ... أنا .. أنا مش فاهم حاجة .. انت تقصد إيه . ألقى حسنين بقايا السيجارة التي تآكلت ونفث آخر دخان في أحشاءه للهواء وقال : - ولا عمرك هتفهم .....