راودني كابوس مخيف، فقد أوحى ليّ الشيطان، أني ضمن قطيع خرفان أسير، في ربوة سهلية خضراء، تطوقها منحدرات تكتسي عشبًا أخضر طريًا، وبها تشققات أرضية، ومنعرجات شبه معبّدة. كنت أسير.. لست أدري حقًا، ما إذا كنتُ خروفًا، أم كنت أنا أنا.. أسير كيفما يسير "كل الخرفان"، يحدونا راعٍ يحكم قبضته على خيزرانة مرنة لولبية، يضرب أي خروف، يشرد بعيدًا، أو يخرج عن القطيع، ضربات تتفاوت شدتها حسب مستوى الخروج، فإن اقترب الشارد إلى منحدر وعر، كانت الضربة مهولة هائلة، وربما تتبعها ضربات، وإن كان الخروج طفيفًا، جاءت هينة معاتبة. كنت أسير.. كأني منوم مغناطيسيًا، لا أشغل تفكيري، بما سيكون عليه مصيري، فأنا مع القطيع، أشعر باطمئنان، تروق لي عنزة دعجاء العينين، قدها مياس، وجيدها أجيد، فأغض الطرف احترامًا للراعي، وربما من فرط خوف.. كلا الاحتمالين وارد، فالأمر محض حلم غريب، وليس لحالم أن يعرف لحلمه تأويلًا، فيما هو مستغرق فيه. سرت مسافة طويلة، حتى تقرحت قدماي، أو بالأحرى حوافري، لكني لم أعترض فأنا مع القطيع، وطالما أن أحدًا لم يبدِ شكايةً أو يظهر اعتراضًا، فليس عليَّ إلا المضي قدمًا. وأخذت أسير.. أجوب أرضًا قاحلة، بعدها جداول رائقة، حُبلى بالثمر، وأطوي ليلًا فأدخل نهارًا، هكذا بلا انقطاع، حتى فوجئت بغتةً بأني إزاء رجل ذي جلباب بني داكن، له شارب كث، ينسدل فيواري النصف العلوي من شفتين بهما غلاظة، وميل إلى الاسوداد، عيناه جاحظتان، يختلط بياضهما بحمرة، وسوادهما بعكرة، فوقهما جفنان، تهدلت شحمتهما، وبرز من فوق الشحم، شعر حاجبين طويل مدبب. ولما هشّ الراعي بعصاه، وقفت ووقف القطيع "كالعادة"، نترقب الأمر بالسير أو المضي، وفيما الراعي يتحدث مع الرجل الغريب، أخذت أرفع رأسي، كي أتفقد المكان. حقيقةً.. لم أعرف مبعث الرغبة، فيما فعلت، فأنا أسير في العادة منكس الرقبة، مطأطأ الرأس، لا أنشغل بما حولي، وقلما أتفرس وجها، كما فعلت مع ذي الجلباب. أسير مؤمنًا بأن القطيع فيه، أولو ثقة من "الخرفان المحترمة"، وهؤلاء يعرفون ما لا أعرف، ومن ثم فلا داعٍ لأن أشغل نفسي بالتفكير في أشياء تافهة، كما أن الراعي يعطيني أجود أنواع الأعلاف والبرسيم، ويمنحني مكانًا وثيرًا في حظيرته، فأنام كل ليلة، ممتلئ البطن، قرير العينين. كنت أسير.. وكنت أرى أن ضربات الراعي لظهري، من حين لآخر، دليل شفقة وحدب، عساه لا يريد لي أن أنجرف، فتتكسر عظامي، ومن ثم كان يضربني ليقوّمني ويهديني، حتى رفعت رأسي أنظر المشهد، فإذا بي أفجع فجيعة كبرى، فأنا أمام حانوت جزارة، اسمه جزارة السمع والطاعة.. ورأيت "جثامين خرفان" معلقة مسلوخة، ما تزال عروقها تنبض بالدماء، رغم خروج روحها. عندئذٍ.. قررت أن أطلق سيقاني الأربعة للريح، وأنطح كل من يعترضني، لكن أربعة رجال أشداء تولوا أمري، وانقضوا عليّ، أحدهم غرس أصابعه الغليظة في لحم ظهري، والثاني امسكني من قرني الأيمن، والثالث من الأيسر، فيما الرابع شحذ سكينًا، ومن عينيه تطل ألسنة لهب، ويتطاير اشرر، مثلما يتطاير من قطعة حديد محماة، لدى طرقها بمطرقة ثقيلة. حاولت عبثًا الهرب، نظرت إلى الراعي بتوسل، فوجدته يحصي رزمة كبيرة من الأوراق المالية، سعيت لأن ألفت انتباهه إليّ، لكنه لم يعرني حتى نظرة، وسرعان طرحني الثلاثة أرضًا، ثم اقترب الرابع بعد أن فرغ من شحذ سكينه، حتى صار بينها ونحري سنتيمترات قليلة، فأخذت أرتعش من فرط رعب، أغمضت عينيّ حتى لا أرى الثواني الأخيرة، والأليمة من حياتي، وتذكرت نعجة رشيقة كنت أحبها، اختفت فجأة دون أن أنشغل بأمرها طويلًا.. اعتصر قلبي، شيء من خيبة أمل، على عمر بددته مخلصًا في طاعة الراعي، وإخلاص لم يكن له أهلاً. ومع بلوغ الخوف ذروته، صحوت من نومي مفزوعًا، أتحسس عنقي، وأنا أتلو قوله تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العاقلون".. ثم توضأت وصليت لله حمدًا وشكرًا على أن كرم بني آدم بنعمة العقل، ولم يخلقني خروفًا. [email protected]