يا عزيز عيني وانا بِدِّي اروَّح بلدي بلدي يا بلدي.. والسلطة أخدت ولدي أغنية سيد درويش الشهيرة التي استوحت كلماتها وألحانها من قسوة وبطش الاحتلال الإنجليزي الذي ساق الآلاف من شباب الفلاحين والعمال المصرين الغلابة وأخذهم عنوة من وسط أهاليهم الفقراء في الحرب العالمية الأولى إلى معسكرات جيوش الحلفاء في الشام وفرنسا؛ ليلقوا حتفهم غرباء بلا ثمن ولا وطن.. وارتفعت الأسعار وعم الغلاء والفقر والجوع، خصوصًا بعد أن جلب الإنجليز قواتهم من أستراليا والهند؛ ليمكثوا في مصر للدفاع عنها, وفرضوا ضرائب باهظة لإطعام هؤلاء الجنود، كما فرضوا زراعة القمح بدلاً من القطن وهو ما أضر بكثير من الفلاحين الذين كانوا يعتمدون على القطن كمحصول تجاري مربح، بينما يدفعون القمح بدون مقابل لإطعام قوات الاحتلال, وعاث هؤلاء الجنود في مصر فسادًا وترويعًا ونهبًا للسكان, سرد نجيب محفوظ جزءًا من خوف المصريين من هؤلاء الجنود في "الثلاثية" ورواية "بين القصرين", حيث كان الناس يخشون النزول للشارع؛ خوفًا من الجنود الأستراليين والإنجليز. التف المصريون حول سعد زغلول والوفد المصري الذي طالب بالسفر لمؤتمر الصلح؛ لعرض قضية مصر والمطالبة بالاستقلال, فقامت قوات الاحتلال باعتقال سعد زغلول واثنين من أعضاء الوفد وترحليهم إلى مالطة, وفي صباح 9 مارس قامت ثورة مصرية شعبية عمت كل محافظات مصر, وأعلنت السكك الحديد إضرابها، وقام الفلاحون بقطع الطرق، ومنعوا المؤونة عن جيش الاحتلال, وأشعل الطلبة فتيل الثورة في القاهرة, كانت مصر كلها ثائرة.. جاءت ثورة 19 بعد عذاب ومعاناة من الشعب المصري على يد الاحتلال. ربما يكون الشعب المصري صبورًا ويتحمل حكامه الظالمين حتى يفيض الكيل ويصل البغي إلى أقصى مداه, ولكن عندما يثور المصريون فإنهم يدفعون دماءهم وأرواحهم في سبيل قضيتهم ووطنهم, ولكنهم نادرًا ما يحصلون على مكاسب حقيقية من ثوراتهم التي تفرقها المصالح المتضاربة للقوى السياسية, والتي تحاول كل منها الاستحواذ على أكبر قدر من الغنائم على حساب الوطن ودماء الشهداء الذين كانوا يحلمون بوطن وغد أفضل. هذا ما حدث مع ثورة 19 أول ثورة شعبية مصرية في القرن العشرين وثورة 25 يناير أول ثورة شعبية مصرية في القرن الحادي والعشرين, لم يحصل المصريون على كل المكاسب المرجوة من ثورة 19، ولكن بالنسبة لثورة 25 يناير اتفق المؤرخون على أنها سرقت على يد الإخوان؛ لتصبح أغنية سيد درويش بلدي يا بلدي.. والنهضة أخدت ولدي يحتفل البديل اليوم 9 مارس بذكرى اندلاع ثورة، ويطرح أسئلة شائكة حول العلاقة بين ثورة 19وثورة 25 يناير, وهل حصل المصريون على مطالبهم بعد هذه الثورات من حرية سواء من الاحتلال أو الحكم الظالم، وعدالة اجتماعية وخبز, ولماذا تتفرق دماء الشهداء ولا يحصل المصري البسيط الذي يدفع ثمن الثورة سوى علي الفتات أو لا يحصل على شيء على الإطلاق؟ طالبت ثورة 19 بالاستقلال التام والعدالة الاجتماعية، ونشطت الحركة الاشتراكية في مصر بعد نجاحها في روسيا, وهاجم بعض الأشخاص قصر الزعيم محمد محمود باشا, وعندما أخبرهم الثوار أنه زعيم وطني، قالوا نحن طلاب خبز ولسنا رجال سياسة, وقاد الخوف من ثورة جياع في مصر كبار الملاك إلى التحالف مع الاحتلال؛ للحفاظ على مصالحهم. يذكر الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث أن قوات الاحتلال وكبار الملاك كانوا يخشون البعد الاجتماعي وثورة الجياع وخصوصًا بعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا وانتشار الأفكار الاشتراكية في العالم؛ لذلك أرسلت السلطات البريطانية إلى مفتي الديار المصرية تطلب منه رأي الدين الإسلامي في الثورة البلشفية, فكان رد المفتي أن البلشفية ضد الشرائع السماوية وبالأخص الشريعة الإسلامية, ونشرت سلطات الاحتلال الفتوى في الجرائد الرسمية، ووزعتها على الناس, وصدرت منشورات ثورية ضد الفتوى "خدعوك يا بخيت وقالوا لك إن الاشتراكية ضد الإسلام, مع أن الاسلام هو العدالة". ولجأ الاحتلال إلى وسيلة أخرى لتفتيت وتفريق القوى الوطنبة, حيث اجتمع المندوب السامي البريطاني مع خسمين رجلاً من علية القوم, وطالبهم بإقرار الأمن والسلام, فخرجوا وشكلوا لجانًا لتهدئة الخواطر في القرى والمحافظات وكتبوا بيانًا يطلبون فيه من الشعب المصري الهدوء ونشر البيان في الصحافة. اخترقت سلطات الاحتلال الجماعة الثورية وتفاوضت مع مجموعة منهم, مثل عدلي يكن وأطلق زغلول على العدليين "برادع الإنجليز", كما انشق علي شعراوي عن الوفدين. يري الدسوقي أن كل هذه الانشقاقات والاتهامات المتبادلة أدت في النهاية إلي عدم حصول المصريين على النتائج المرجوة من الثورة؛ لأن مصر استقلت عن الدولة العثمانية وظلت خاضعة للاحتلال البريطاني, كما لم يحصل فقراء المصريين على عدالة اجتماعية ولم يتحسن وضعهم الاقتصادي, وانتهت ثورة 19 لصالح الرأسماليين الملاك الذين لم يدفعوا ثمن الثورة, وأصبح قانون الانتخابات لمجلس الشيوخ أو النواب يشترط أن يمتلك المرشح مبلغًا لا يستطيع دفعه سوى كبار الإقطاعيين, أما ثورة يناير فانتهت إلى الرأسمالية العالمية الشرسة؛ لأن القيادة لم تكن مع الثوار, وركب الإخوان الموجة ووصلوا للحكم بدعم أمريكي مشروط ببقاء اقتصاد السوق وعدم المساس بمصالح إسرائيل في المنطقة؛ لذلك لم تحقق ثورة يناير مكاسب سياسية أو اقتصادية. كانت ثورة 19 بداية طريق طويل استغرق أكثر من ثلاثين عامًا وربما تكون ثورة يناير هي الأخرى شرارة لثورة أخرى قادمة, يؤكد الدسوقي أن الثورة حينما يركبها آخرون لهم مصالح متباينة, وتجد مساندة لها من النظام العالمي فإنها تنتهي, كما أن فكرة التمرد والثورة طويلة المد ليست موجودة لدى المصريين, وهذا يحتاج إلى ثورة ثقافية وفكرية لتغيير الأفكار والمفاهيم في المستقبل. تختلف الدكتورة لطيفة سالم أستاذ التاريخ الحدث مع الدسوقي مؤكدة أن ثورة 19حققت العديد من المكاسب السياسية، منها التفاف الشعب حول قضية وطنية وحول سعد زغول وإحساسه بهويته المصرية, وإرغام الانجليز على التفاوض مع المصريين واستمرار الثورة حتى الحصول على تصريح 28 فبراير, ودستور 23. وعلى المستوى الاجتماعي لأول مرة نزلت النساء للمظاهرات وخلعت برقعها وكان هذا إيذانًا بميلاد فكر وعصر جديد للمرأة, وتروي سالم أن النساء كن يحرضن على العصيان المدني ويذهبن بأنفسهن إلي مقار الإدارات الحكومية لمنع الرجال من العمل ويعرضن على الرجال حليهن وأموالهن إذا كانوا في حاجة ماسة للمال, وهذه جرأة كبيرة في هذا العصر من النساء، حتى لو تحالف أصحاب المصالح مع الإنجليز، ولكن قامت بعد ثورة 19 حركة وطنية قوية وأحزاب كثيرة قاومت الاحتلال. وترى سالم أن الطبقة الوسطى هي المحرك الأساسي لكل من ثورتي 19 و25 يناير, ولكن ثورة 19 استمرت في مقاومة الإنجليز حتى الجلاء النهائي بعد ثورة يوليو, أما ثورة 25 يناير فالإخوان عندما حاولوا السيطرة على جمال عبد الناصر وفشلوا، فقد تعلموا من أخطائهم واستولوا على السلطة ولن يتركوها إلا في حالة واحدة وهي حدوث انشقاق بينهم, أو حرب أهلية. وتأمل سالم في تكاتف وتحالف القوى الثورية للوصول إلى الناس البسيطة في الأحياء الشعبية وفي أعماق الريف والصعيد. كان لثورة 19 جنود مجهولون لم تشتهر أسماؤهم في التاريخ لأنهم فضلوا العمل في صمت حتى النهاية, منهم عبد الرحمن فهمي المحرك الخفي لثورة 19 ورئيس الجهاز السري لسعد زغلول, كان فهمي ضابطًا في الجيش المصري قدم للمحاكمة العسكرية لوطنيته, وكان له دور كبير في المراسلات بين الوفد في باريس والقاهرة. يشير الدكتور عبد المنعم الجميعي أستاذ التاريخ الحديث والعضو في حزب الوفد إلى دور عبد الرحمن فهمي في ثورة 19، حيث كان يرسل مع محمد لبيب أحد موظفي الجامعة خطابات سرية لسعد زغول في باريس, كما كان ينظم اللجان الثورية للوفد في المحافظات. ويعتقد الجميعي أن وجه التشابه بين ثورة 19ويناير أنهما ثورتان شعبيتان طالبتا بالعدالة الاجتماعية والحرية، ولكن ثورة 19 حققت بعض المكاسب أما ثورة 25 يناير اجهضت لأن المجلس العسكري سلم السلطة للإخوان، وهذه نهاية مأساوية لثورة شعبية. الانشقاق بين الإخوان وتكاتف القوى الوطنية هو الحل للخروج من النفق المظلم الاتهامات المتبادلة وراء ضياع مكاسب ثورة 19 ونهاية ثورة يناير ثورة 19 حققت مكاسب سياسية.. أما ثورة يناير لم تحقق شيئًا