تكاد الجدران تصاب بالصمم من هول الانفجارات ...السحب البيضاء تتكون في رحم السماء بعدما قُذف فيه الدخان ... لم يكن بوسعي أن أتخلف عن موعد عملي أكثر من دقيقتين، فهناك ما يُسمى بعم "سيد الترزي" في انتظاري أمام ذلك الكشك القائم على أول شارع محمد إبراهيم بميت عقبة، والذي ترقّى بدرجة دكّان في العقد الثالث له والأخير، وبكل أسف مفتاحه معي. عم سيد ذلك الكائن القصير صاحب الكرش الممدود الذى سيعاقبه عليه الحى قريباً بتهمة إشغال الطريق، السيجارة لا تفارق فاه، ونظارته دائماً ما تكون ساقطة على أنفه، عيناه جاحظتان أو أصبحت كذلك من شدة التركيز في أعمال الخياطة والتفصيل. تقول الأساطير: خيراً لك أن تعبث مع الموت، ولا تتأخر على عم سيد. ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن، وآتى بعد موعدي بساعة كاملة ونصفها. كم أنت محظوظ يا عم سيد، اليوم ستمارس هوايتك المفضلة وتقوم بتوبيخي طيلة النهار. حدجني ثم سألني بامتعاض: - لماذا تأخرت ؟ - عذراً يا عم سيد، النوم قد غلبني. - نام على أمك حائط، حضرتك تنام والدكّان في ستين داهية ! - حسبك يا عم سيد، فالكيل بي قد فاض. - لا تؤاخذني يا سيدنا، أأحضر لسيادتك ليمون لكي تهدأ أعصابك ؟! - لا يا عم سيد، ولكن أريد أن أخبرك أنّ أمي كانت على وشك الموت أمس. - حقاً ! لم أكن أعرف ذلك، إذن مخصوم من أجرتك ثلاثة أيام وإذا تأخرت مرة أخرى، فلتجلس مع أمك المريضة ولا تأتي. هذا الدخان اللاذع كان أقوى من كل المرات السابقة ... ربي لا أحتمل. لو انفجر فيضان نهري من فوهة بركانية حتماً ستكون عيني، وأنفي ... أنفي المسكين الذي ضُرب بنيزك من السماء. المشهد ضبابي، أشلاء تتناثر، الشوارع قد تنبت جثث من كم الدماء التي تجرعتها تلك الأثناء. الكل يركض بسرعة وخفة لم أجد لها مثيل، نبحث عن الأنفاس التائهة وسط الغيوم التي التهمت السماء، أذني لا تميز سوى صرخات سيارات الإسعاف التي غزت المكان، وأصواتنا ... أصواتنا التي اخذت تتعالى هى سلاحنا المفضل .. بل الوحيد. لم يعد هذا هو شارع محمد محمود الذي أعرفه من قبل، حتى سور الجامعة الأمريكية لم يعد كذلك، وأطفاله الذين لعبوا دور القناصة بالأحجار فقط، ربما لو هناك آلة زمن؛ لاستعان به صلاح الدين الأيوبي للدفاع عن أورشليم. أيقظتنى ذلك اليوم وعدوها الأول قد اخترق قلاع ملامحها الحصينة. أمى لم تعرف الحزن مطلقاً، بل تكرهه لدرجة اعتقادى بأنّ ابتسامتها عيب خلقي، نعم ... فلقد أصبحت الابتسامة في زمننا هذا عيب خلقي أو درب من دروب الجنون. داعبتها، محاولة منّي لفك حصار قوات الاحتلال عن نفسها: - ماذا بكِ يا بطة !! - لا شىء يا حبيبي، إنّي بخير. - ما رأيك أن نعقد صفقة ؟؟ أقبّلِك مقابل أن تقولي لي ؟! انتصرت في الجولة الأولى، واستطعت أن أرسم بأصابعي المرتعشة ابتسامة على وجهها الذابل. - لم نعد نستطيع يا بنى أن نسبح في بحر الدين والهم. - لما قولك هذا يا أمي ؟ - أصبحنا في منتصف الشهر، وحتى الآن لم نسدد إيجار الشقة وفاتورة النور. سحقني اللعين في الجولة الثانية، وانهمرت دموع أمي على وجنتيها. - الفرج قريب، عسى أن يدبرها الله الآن. - الحمد لله على كل حال. صديقك كريم ينتظرك في الشارع. في عجالة، وضعت رأسي تحت الماء، والتقطت سترتي، ونزلت لكريم. منذ أن كنّا في المرحلة الإعدادية - آخر مراحلنا التعليمية - ولم نفترق، دائماً نتفق ولكن الثورة جاءت لتغير كل ما هو تقليدي، ووضعتنا على أول طريق الاختلاف. لو خُير كريم بين الثورة والطاعون، لأكل سبعة فئران أحياء، وتجرع بعدهم زجاجة مياه غازية ليهضم. لم يخلُ وجهه - كعادته - من ابتسامته الساخرة وهو يحدثني عن الثورة: - ستشارك غداً يا مناضل ؟ - إن شاء الله. - ولماذا ؟ غداً ستكون جمعة ذوى اللحى، أم أصبحت واحداً منهم ؟! - غداً سنشارك لرفض وثيقة السلمي، وهذا ليس مطلب فصيل بعينه. - أنتم تُستغلوا لخراب هذا البلد دون درايتكم، وسترى حقيقة كلامي في المستقبل القريب. استمرت نظرتي تلعنه للحظات في صمت حتى انصرفت. تلك اللحظة التي أُصبت فيها بعمى مؤقت بعدما هوت قنبلة مسيلة للدموع أمامي مباشرة، ومع ذلك لم يرحمني ذلك المجند ليطلق لعنته الثانية علىّ. لم أستطع وقتها فعل شىء سوى أن أهاجر دولة محمد محمود، متجهاً إلى دولة ميدان التحرير الشقيقة، أحاول أن اقتنص فيها بعض الأنفاس لتعود الحياة لرئتىّ من جديد. اهتز وقتها هاتفي ليعلن عن قدوم مكالمة جديدة ... إنّها أمى. حاولت مجتهداً أن أُنهي سعالي الجاف الذي حطم صدري واعتصر حنجرتي. - آلو .... - كنت على يقين أنك ستذهب. - وأنا على نفس اليقين من رفضك لمشاركتي لو أخبرتك. - احترس يا بني وابتعد، فقد بلغ سيل الدماء الزبى. - منذ ثلاثة أيام وأنا أشارك وأعود للبيت سالماً، لا تخافي يا أمى، سأكون بخير. أنهيت تلك المكالمة وأنا أشعر بحنين شديد لأمي، أودّ أن أراها الآن بشدة وأقول لها "أحبك يا أمي". - أليس لها غيرك ؟! النسيم البارد الذي يضرب وجهك في نهار أغسطس بعد قدح مياه مثلجة يجتاح صدرك. ذلك كان شعوري بعدما سمعت تلك الأنغام الملائكية التي تخرج من شفتين ساحرتين لفتاة في عقدها الثاني، جمال فاتن امتزج بهيبة لم أعهدها من قبل، من هيئتها تعرف أنّها من أثرياء القوم، بل وتتعجب وجودها في التحرير بالخل والخميرة والقناع الواقي. أجبتها والذهول استبدل دموع القنابل فى عيني: - نعم، أنا وحيد أمي. - ألم تخف عليك ؟! - خائفة، ولكنى حاولت إقناعها بأن الخوف ليس له جدوى إلا المذلة. - وأنت ... ألست بخائف ؟ - بالطبع .. أخاف على الفقر الذي أعيش فيه، والجهل الذي لا أمتلك غيره، ومرض أمى الذي لم يرحمها كالمستشفيات الحكومية... أمثالي ضلوا طريق الخوف يا آنسة، لأنه للأغنياء فقط. رنت إلى الأرض لحظات ثم قالت: - أنت مخطئ، أنا أشارك معك الآن ومن الممكن أن أموت في أى لحظة. بإصرار غير متوقع: - لالالالالا، أنت ومن مثلك لابد أن تبقوا، أنتم من سيصنع هذا البلد عندما نطهرها من الجراثيم التي تسيطر عليها. تابعت ودقات قلبي ترج جسدي: - لأجل دفء الناس؛ لابد أن يحترق الخشب ... فقط تذكرونا. انطلقت مرة أخرى مسافراً وهي تتبعني لدولة محمد محمود. موجة عارمة من الخرطوش الضال والرصاص الطائش، المكان تسيطر عليه حالة من الفوضى ، رائحة الموت تنبعث من الأركان. وجدتني أركض ومؤشر عداد السرعة لدىّ يزداد بطريقة جنونية نحو خط دفاع العدو، ويدي تشير لهم بعلامة النصر. أترنح كما لو كنت أرقص فى ليلة عُرسي. أُطفأت الشمس وحلّ الليل بغتة. أبتسم لأمي المنحوتة في السماء السوداء الخالية من النجوم. لم أتمكن من تكبيل تلك الدمعة الهاربة من حراس عيني. أحدهم أغلق الأصوات من حولي عنوة. ما الموت إلا راحة لي. Comment *