لم أكن أتخيل أن ينتهي بي العمل الصحفي، إلى السياسة، فقد بدأت رحلة مهنية لم تخل من نجاحات وإخفاقات، صحفيًا يعمل بقسم الأدب، في صحيفة صغيرة، وكانت أسمى طموحاتي، أن ألتحق بصحيفة مثل: أخبار الأدب، التي صدرت فيما كنت طالبًا. ماتزال قراءة معلقة عنترة مثلا، أقرب إلى ذائقتي وطبائعي، من قراءة كتاب في الشأن السياسي، فعلى صفحات الدواوين، وبين القوافي المثمرة المسربلة، شجنًا ووجدًا وحزنًا واشتياقًا، ألتقي عيني الحبيبة، وأرى الورد الجوري يتفّتح، وأملأ رئتيّ بعبق البحر، رائحة طفولتي السكندرية، وأدخل حالة "دروشة"، أشبه بالنيرفانا في البوذية، فأنعتق عن الزمان والمكان، وأعلن العصيان على قوانين الفيزياء، فيما تأخذني الكتابات السياسية، إلى ما يتنافى معي، ولا يشبهني نفسيًا ووجدانيًا، وتدخلني رغم أنفي، إلى أجواء التآمر والخيانة والصفقات المدّنسة، وما إلى ذلك مما يعتبره السياسيون "تفاهمات". هذه خواطر، تثيرها مناسبة عيد الحب، الذي يأتي فيما يحاصرنا القبح، من كل الجهات، وبينما تطاردنا البشاعة، كوابيسَ في نومنا المتقطع، وواقعًا يداهم أحلامنا، وفيما يخرج من تحت أسرتنا، تكفيري ذو لحية كثة، ووجه مكفهر، يأخذ بتلابيب الفرح، وفيما يطلع علينا من الجحور آخر، فيلقي علينا اللعنات لأننا فقط نحب، ولأننا نبتاع وردًا، وفيما يستبيح دماءنا ثالث، لأننا فكرنا بعد عناء يوم عمل طويل، أن نمر ليلا ببيت الحبيبة، حتى نحيي شباكها، ونرسل لها التحية من بعيد، ثم نمضي في طريقنا صامتين، نحمل في صدورنا، هذا الشجن اللذيذ الموجع، وتلك الطعنة المشتهاة. إن عيد الحب، هو عيد للزنا، هكذا أفتى القبيحون، بعد أن خلعوا خفوفهم، ووضعوها في وجوهنا المشاهدين، على الهواء مباشرةً.. ولأنه عيد حرام شرعًا، فإن الذين معهم، ممن جعلوا أنفسهم سدنة الفضيلة، حذروا من أنهم سيجلدون كلَّ عاشق ثمانين جلدة، إن ضُبط متلبسًا، بجريمة العشق، وإن مارس هذا الإثم البشري، الذي يجعل الإنسان أكثر إنسانية. إياكم والحب.. هكذا يريدون أن تسود شرائع الكراهية والحقد والبغضاء، فالأقباط كفار، علينا أن نقاتلهم حيث نثقفهم، وكل من ليست له لحية، خارج عن السنة ومقصر في شأن الدين، ودماء الليبراليين حلال، ونساؤهم سبايا، لا بأس من انتهاكهن في ميادين التحرير، وإذا سحلن فهن الآثمات المجرمات، اللاتي يرتدين "عباية بكباسين"، وإذا أمعن الأمن المركزي في متظاهري الاتحادية، تعذيبًا وترهيبًا، إلى درجة تعرية رجل وسحله، فهو شاذ جنسيًا، اشتهى الجنود، الذين حاولوا نهيه فلم ينتهِ، أما الذين يموتون ماديًا، تحت أحذية الجلادين، في ظلمات السجون، التي تلتهم كل يوم واحدًا، من خيرة شباب مصر، أو يموتون معنويًا، بعد اغتصابهم فهم بلطجية ومخربون ومأجورون. سحل وقتل ومولوتوف وقنابل مسيلة للدموع واغتصاب وانتهاك واعتقال وبلطجة وأخوّنة وميليشيا وتكفير وملثمون وتحطيم وحوادث قطارات وغلاء وتضخم وديون وهبوط بالبورصة.. هذه مفردات الحياة اليومية التي نعيش، هذه وجبات اليوم الإجبارية، والمُعدة في كهوف مظلمة.. فلا بديل عن القبح. هذه مفردات عيد القبح الذي جاءت به الخفافيش، يوم حطت على أرض مصر جماعة تلو جماعة. هذه مفردات تجعل القصيدة جريمةً، الوردة فضيحة نخبئها، والدمعة في الأحداق ذنبًا، والنظر إلى عيني الحبيبة، والترنم باسمها على سبيل الاستئناس، وللخلاص من ظمأ النفس، كبيرة من الكبائر، التي لا يتطهر المرؤ منها، إلا بثمانين جلدة. هذه مفرداتهم وأيامهم الموحشة الجرداء، التي أرغمتني حين فكرت في أن أكتب، لذات العينين الطيبتين قصيدة، بمناسبة عيد الحب، وحين تمنيت أن أستظل بأفياء أهدابها، من صحراء عمر قاسية، وأيام عجاف.. أن أكتب هذا المقال. [email protected] Comment *