في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الثامن عشر من يناير 1985م، صعد المفكر محمود طه درجات السلم إلى المشنقة تحت سمع وبصر الآلاف من الناس، وعندما نزع الغطاء الذى كان يغطى رأسه قبيل التنفيذ، انكشف وجهه عن ابتسامة وضاءة لفتت الأنظارلتؤكد انتصار الإنسانية على عوامل الشر... بعد محاكمة صورية قضت بإعدامه إثر ما وصفه الحكم الصادر ضده بالإعدام، برفضه لقوانين الشريعة الاسلامية وكتابته منشور " هذا أو الطوفان" الذي أدان فيه القوانين. المشهد مازال واضحا أمامها، فلم تستطع سنوات الهجرة عن موطنها الأصلي (السودان) أن تمحو صورة والدها وهي تنظر اليه وهو مقاد إلى الإعدام مبتسما للخطر القادم .... تتذكر جيدا كلماته الأخيرة لها ( الموضوع ده حيتم ثقي في الله وارض بحكمه)...إنها أسماء محمود محمد طه ابنة أشهر مفكر اسلامي سوداني (محمود محمد طه)، الذي عاش من أجل المبدأ وأعدم من أجله أيضا... ورغم سنوات الحزن والمعاناة التي عاشتها بعد رحيله... تقدم أسماء يوم 18 يناير(يوم إعدام والدها) فداء للشعب السوداني . وبمناسبة ذكرى إعدامه كان ل"البديل" هذا الحوار مع ابنته أسماء.. لتسألها عن الصعوبات التي واجهتها أثناء إقامتها بالسودان بعد رحيل والدها .. وكيف تعامل الشعب السوداني معها؟ اسم محمود طه لا يقف عنده السامع محايدا،ً لابد أن يكون هناك رد فعل سلبا كان ذلك أم إيجابا.. فقد انقسم المجتمع السودانى بين مؤيد لإعدام والدى، وغالبية هؤلاء من المتشددين الإسلاميين الذين لم يعطوا أنفسهم فرصة الاطلاع على أفكاره وآرائه ، وخاصة رأيه في ضرورة تطوير التشريع و البعث الإسلامي، أما عامة الشعب السودانى فيمكن القول إنهم مضللون ولديهم صورة سلبية، أما المثقفون بصورة عامة والعاملون فى مجالات حقوق الإنسان والمهتمون بالشأن العام فهم حزانى و شجبوا ما تم ضده، و ميزوا بين مفهوم الدين و بين استغلاله بواسطة السلطة ورجال الدين، من أجل البقاء فى السلطة. وبعد اغتيال والدي ب 76 يوما، (وهو عمره بالسنين عند تنفيذ حكم الإعدام عليه)، هبت ثورة إبريل التى اقتلعت الحكم العسكرى وأتت بحكم ديمقراطى.. رفعت قضية أمام المحكمة الدستورية العليا بالخرطوم، تم بموجبها إبطال الحكم الصادر ضده وإعلان عدم دستوريته، ذلك الحكم الجائر الذى أدى لإعدامه ومصادرة منزله، وحرق كتبه، ومطاردة وتشريد معتنقي فكره!! * كيف يمر يوم 18 يناير من كل عام عليك وماذا يمثل لك؟ نحتفل بهذا اليوم كل عام لأنه يمثل عندنا يوم فداء للشعب السودانى، ونعتبره انتصارا على الموت، حيث واجه والدي الموت مبتسما، كما يمكن استخلاص درس يستمد من هذا الموقف يحكي الشجاعة والإقدام والبسالة، وعلمنا كيف نعيش ونموت من أجل المبدأ... ومازلت أتذكر هذا اليوم وأتذكر آخر كلمات قالها لي والدي حيث اقترب مني وقال لي (الموضوع دا حيتم ثقي في الله وارض بحكمه) , وكانت لتلك الكلمات وقع أصابني بكثير من الحزن جعلني أتمزق من داخلي ولكن لم يكن بيدي شيء. * البعض يقول إن محاكمة محمود محمد طه لم تكن من منطلق معارضته للنظام وإنما بسبب آرائه الدينية المتطرفة؟ كتب والدى منشورا بعنوان " هذا أو الطوفان" يعارض فيه اتجاه حكومة مايو لتطبيق القوانين التي شرعتها في شهر سبتمبر، و سماها قوانين سبتمبر، باعتبارها تدعي الانتماء إلى الشريعة، و قدم لها نقدا، على أنها منافية للشريعة الإسلامية، و لا يمكن ان تطبق فى بلد متنوع الثقافات و الأعراق والديانات كالسودان، مؤكدا أن تلك القوانين كفيلة بتقسيم السودان....وكان هذا المنشور ذى الصفحة الواحدة، هو السبب الرئيسى فى إعدامه، تحولت التهمة من إصدار منشور إلى حكم بالردة في ما بعد.. * قلتي إن حسن الترابي كان وراء الحادث وأن الصادق المهدي كان سلبيا فما هي دلالاتك علي ذلك؟\ الأدلة على تورط الترابي في إعدام والدي كثيرة ومتعددة، وأشهرها اعترافه لكثير من الاصدارات الصحفية والقنوات الفضائية بالموافقه على إعدامه، وقال الدكتور حسن مكي، إنه حينما أعدم والدي كانت السودان مسرحاً لأفكار شتى.. فأنصار تيارات الإسلام السياسي كان يحمدون لله أنهم تخلصوا من خصم قوي، كان وجوده يعيق نشر أفكارهم، والمفكرون كانوا يرون أن لديه قدرات فكرية وروحية.. ولكن ما حدث هو انتصار تيارات الإسلام السياسي. أما الصادق المهدي، فتتجلى سلبيته في مقولته المشهورة، حين تم تنفيذ الحكم، حيث قال "محمود بلع الطعم"، ويعني أنهم كانوا يعلمون بالمؤامرة التي تستهدفهم فاحتاطوا لذلك، لكن والدي رغم علمه وقوله للجمهوريين " نحن خرجنا لنواجه مؤامرة تستهدف حياتنا ونحن ما مبالين" وأصدر المنشور، الذى عارض فيه تطبيق قوانين سبتمبر وطالب بإلغائها لتشويهها للإسلام، وتهديدها للوحدة الوطنية!! * في عام 1990 خرجتي من السودان وقلتي إن هذا الخروج كان قرارا سياسيا ؟ خروجى من السودان تم بعد انقلاب ثورة الإنقاذ على الوضع الديمقراطى الذى أشرت إليه قبل قليل، ومنذ الوهلة الأولى ورغم نفي الإنقاذ توجهاتها الإسلامية المتزمتة السلفية ، فقد كان واضحا عندي هذا التوجه، واتضح لي أن هذا الوضع قابض وكابت، ومكمم للأفواه بالصورة التى يستحيل معها مقاومته أو العيش الكريم تحت ظله، فخرجت بأسرتى أبحث عن وطن أجد فيه الحرية والكرامة، فلجأت للولايات المتحدةالأمريكية..وقد كان أن وجدت ما أصبو إليه من حرية!! * لماذا عدتي مرة ثانية إلى السودان وهل من أنشطة ثقافية تقومين بها؟ رجعت إلى السودان بعد اتفاقية السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان والتى انبثق عنها دستور مؤقت ينص على الحقوق والحريات، وفى ظله استطعت تأسيس مركز باسم الوالد وزاولنا عبره نشاطاً ثقافياً واسعاً والآن نحن بصدد إصدار الأعمال الكاملة للأستاذ عن دار رؤية للنشر بالقاهرة تحمل عنوان نحو مشروع مستقبلي للاسلام. ماذا كان يمثل لك محمود محمد طه الأب والقائد الروحي؟* يمثل لى نموذجاً كاملاً لاتساق القول مع العمل..القول والدعوة للتحرر من الخوف من كل ما عدا الله، والعمل فى الشجاعة والإقدام وقولة الحق أمام سلطان جائر، الثبات على المبدأ والابتسامة أمام حبل المشنقة!! * هل إثر إعدام والدك على قناعاتك بالمذهب الروحي وكيف؟ حدثت هزة روحية داخلى و عدم رضا، ولكن بالنقاش الموضوعي وإدامة الفكر تمكنت من حمل النفس على الرضا بالله، واتضحت لي الحكمة من وراء كل ذلك، فحمدت الله على هذا الموقف المتفرد الذي وقفه أبي!! Comment *