في مثل هذه الأيام، ومنذ ستين عامًا، "12-13 أغسطس 1952"، جرت أحداث مصنع الغزل والنسيج بكفر الدوار، والتي عرفت بأحداث كفر الدوار الدامية، وراح نتيجتها شهيدين، قضيّ بإعدامهما، هما محمد مصطفى خميس "أمين مخازن"، ومحمد حسن البقري "غفير"، فضلا عن الحكم على 11 آخرين بعقوبات تراوحت بين ال15 سنة أشغال شاقة والسنة الواحدة. بعد ستين عامًا من الإضراب العمالي، والمطالبة بحقوقهم، وبطش السلطة بهم، قطعتُ مسافة سفر من القاهرة إلى "إدكو" بمحافظة البحيرة، برفقة الزميل القاص والروائي محمد فاروق، متجهين إلى منزل الشهيد مصطفى خميس، بعدما تواصلنا مع شقيق الشهيد، ورتبنا موعدًا للزيارة. كان الحاج محمد محمد خميس صاحب ال77 عامًا، متماسكًا قويًا أثناء الحوار الذي دام أكثر من ثلاث ساعات، لغته تقترب من الفصحى، أحيانًا يصوب أخطائه اللغوية بنفسه في الحوار، بدا هذا التماسك هشًا حين سألته ماذا تريد لمصطفى خميس بعد كل هذه السنوات؛ فامتلأت عيونه بالدموع. كذلك بدا بشوشًا حين تحدث عن رغبة "الشهيد" في الزواج من ابنة عمه فائقة الجمال"حكمة الصغير" وعدم قبول والده لهذه الفكرة قبل استشهاد مصطفى بأيام. يحكي الحاج محمد، الذي يحب عبد الناصر والسادات، وصوت لصالح حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية عن المأساة، فبعد انطلاق الأحداث في كفر الدوار بساعات، شكل مجلس قيادة الثورة في مساء 13 أغسطس مجلس عسكري عالي، برئاسة البكباشي عبد المنعم أمين، للتحقيق في الأحداث، وفي يوم الثلاثاء 16 أغسطس تقدم الصاغ صلاح الدفراوي من القيادة العامة لتلاوة حكم الإعدام على "خميس" والذي صدق عليه محمد نجيب في 18 أغسطس 1952. وبعدها حكم على البقري بنفس الحكم، لينفذ الحكم في 7 سبتمبر من العام نفسه، في محاكمة بدت أشبه بمحاكمة دنشواي، بوصف كثير من المؤرخين. كان خميس يعمل بإدارة مخازن الأقمشة بشركة كفر الدوار للغزل والنسيج منذ عام 1947 وقد بدأت الأحداث مساء يوم الثلاثاء بمظاهرات قام بها العمال تأييداً للثورة وقائدها واستمرت إلى صباح يوم الأربعاء واشتعلت تلك المظاهرات في شوارع مدينة كفر الدوار وداخل الشركة. في الوقت نفسه، كان العمال يهتفون بسقوط محمد حسين الجمال مدير عام الشركة وابن عمه عزيز الجمال مدير عام النسيج وبسقوط السكرتير العام للشركة حسين فهمي التركي الجنسية الموالين لاتحاد الموظفين دون عمال، بجانب زيادة أجورهم وإجراء انتخابات نقابية حرة فاندسوا من خارج الشركة بين صفوف العمال وأشعلوا النيران في مكتب الأمن وبعض مكاتب الإدارة في الوقت الذي قام العمال أنفسهم بالحفاظ على المصانع وإطفاء النيران، بينما كانت هناك اشتباكات بين الأهالي والعساكر خارج الشركة، مما ترتب عليه مقتل بعض العساكر، وأثناء المظاهرة الثورة أطلق عزيز الجمال النار على "الشهيد" من شرفة مسكنه فأصيب مصطفى في جبهته وتصادف سقوطه على أحد الجنود والذي كسرت بندقيته، فتم القبض على مصطفى، وقد أسفرت تلك المظاهرات والاضطرابات عن مصرع الجندي سيد الجمل وإصابة 50 من رجال الشرطة والعمال، وقد أصبح "خميس والبقري" كبش فداء لهذه الأحداث، ولقمع العمال، وإخماد جذوة نضالهم. إلى الحوار... نشرت إحدى الصحف، أثناء الأحداث، صورة لوالدة الشهيد وهي ترفع يديها وتقول: إن كان ابني قد خان الوطن فدعوه يلقى مصيره.. ما تعليقك؟ الحقيقة أن محرر جريدة آخر ساعة، طلب من والدتي أن ترفع يديها وتدعي لمصطفى، لكنه حول هذه الصورة إلى كذب وافتراء, والدتي لم تكن تعرف أن مصطفى محكوم عليه بالإعدام، وكل ما كانت تعرفه أن المسألة مجرد خلافات وسيعود بعدها مصطفى. كما أنها سيدة بسيطة، وغير مثقفة فكيف تقول مثل هذه الجملة وبهذا الشكل؟ هل هي طالبة في كلية الألسن لتنطق الكلام بهذه المفردات؟ وهل هناك أم تقول على ابنها مثل هذا الكلام؟ هل رأيت الشهيد مصطفى بعد القبض عليه؟ بعد بداية الأحداث شاهدت الشهيد مصطفى مرة واحدة، حين زارني في سكن الشركة بكفر الدوار ومعه النيابة وقوة "بوليس" في حدود الساعة الثانية ظهر اليوم التالي للأحداث، وفتشوا الغرفة بحثًا عن أية منشورات، "قال يعني أحنا تبع تنظيم شيوعي"، وقطعوا المراتب، الدولايب، تحت السرير، لم يبقوا شيئًا إلا وفتشوه، حتى الغرفة المجاورة فتشوها, وسألت الشهيد عما سيحدث فقال لي لا تقلق، ولا تخف، سأعود قريبًا. وتوجهتُ إلى رئيس النيابة وسألته عما سيحدث، فقال لي "لا شيء.. أنتو ناس كويسين". ومن ساعتها لم أر الشهيد بعدها. إذن أنت لم تحضر المحاكمة بالشركة؟ المحاكمة كانت في الشركة، والحكم تم النطق به في ملعب كرة القدم التابع للمصنع، وكانت الحراسة مشددة جدًا, ولم يسمحوا بالحضور إلا لفئة من العمال قليلة, "علشان يرهبوهم" ويخيفوهم, فالمحاكمة كانت إرهابًا لبقية العمال. وماذا عن تواصلك مع أسرة محمد حسن البقري؟ انقطعت الاتصالات بيننا، فبعد الأحداث مباشرة لم نعرف عنهم شيئًا، وهم تقريبا من أبو حمص أو كوم حمادة، ولم يذهب أحد من أفراد أسرته لاستلام جثته، وإنما خالي استلم جثتي الشهيدين، وأوصل جثة البقري إلى أهله. وهم كانوا "على أد حالهم" وفقدوا ابنهم الذي لم يتجاوز ال35 سنة. معظم الكتابات تشير إلى أن عمر البقري ساعتها 17 سنة!! لا الشهيد محمد حسن البقري كان عمره 35 سنة، والشهيد مصطفى كان عمره عشرين سنة. ماذا عن والد ووالدة الشهيد عند حضور النعش؟ لم يكن والدي ووالدتي على دراية بحكم الإعدام، وقد قام بعض الأهل قبل حضور الجثة باصطحابهما إلى "الغيط" حتى لا يصدما، فيما كانت إحدى أخواتي البنات تلقي التراب على الجنود والضباط الذين أحضروه، فلم يعترضوا قائلين: إحنا عارفين أن مصطفى شهيد، وأنه مات مظلومًا. وبعدها عرفت والدتي، وكانت كل يوم تدعي على من ظلم ابنها. بالنسبة لك، كيف ترى عبد الناصر والسادات؟ أنا أحب الرئيس جمال عبد الناصر، فهو رجل، وقوي، وبنى دولة قوية، و"خلى للمصري كرامة"، كذلك أحب الرئيس محمد أنور السادات، فهو رئيس ذكي، ولئيم، وكان يحب مصر. باندهاش: تحبهما رغم أنهما أعدما أخاك؟ موضوع الشهيد حاجة تانية، أنا أتحدث عنهما كرؤساء الجمهورية، والحقيقة لم أستطع أن أكرههما. نعود إلى بداية الأحداث، تذكر كيف قبض على الشهيد؟ في صباح يوم 13 أغسطس خرج الشهيد من مسكننا بكفر الدوار يبحث عن اي طعام يشتريه، البلد يومها "ماكانش فيها لقمة"، وفوجئ بالتظاهر، فاندمج مع المظاهرة، وهتف باسم محمد نجيب، وباسم الثورة، وطالب بحقوق العمال، وقد حمله البعض على أكتافهم, ولقد صوب ناحيته بالرصاص، ولم يصبه سوى خدش في جبهته، وألقي القبض عليه عند بوابة خمسة، وهي قريبة من سكن رئيس مجلس الإدارة محمد حسين الجمال، الذي كان يهتف الناس ضده، فهو من حاشية الملك، وقد منح البكوية بعدما احتفى بفاروق في "مبرة المحمودية" حيث كلما وضع الملك قدمًا على السلم تظهر على مقدمة السلم صورة الملك وهي منيرة، وبعد أن عقد الجمال وليمة كبيرة قال له الملك: متشكرين يا محمد بيه، وكلام الملوك لا يرد، وهو أحد الفاسدين الذين ثار ضدهم العمال. متى كان أول تحرك لرد اعتبار الشهيد؟ أول مرة كان التحرك لإنقاذ روح الشهيد، بعدما عجزنا عن أن نوكل محاميًا، ذهب وفد من البلدة إلى الرئيس محمد نجيب، فقال لهم ممكن، "بس مصطفى يقول على اللي وراه" ومن الذي دفعه لذلك، وهم بذلك يريدون تصفية حسابات. مع من؟ مع حافظ باشا عفيفي وابنه، فحافظ باشا أحد حاشية الملك، ولما جاءت الثورة "مشى معها" وأصبح من أنصارها، وكان المطلوب من مصطفى أن يقول إن ابن حافظ باشا هو من دفعني لذلك. لكن ابن حافظ باشا لم يمس، بالعكس خرج من قضيتي سلاح دون ترخيص وحيازة مخدرات في نفس الأحداث.. تم ذلك نتيجة علاقة تربط بين حافظ باشا وعلي باشا ماهر رئيس الوزراء، والاثنان من رجال الملك وحاشيته. ثلاثة من مجلس قيادة الثورة اعترضوا على الحكم هم عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين.. ونجيب صدق عليه "خميس والبقري" كانا كبش فداء لأحداث كفر الدوار.. وخالد محيي الدين قال "دم الشهيد في رقبتي" أحببت عبد الناصر لأنه عمل للمصري كرامة وصوت لصالح حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية وفد من البلدة ذهب إلى الرئيس محمد نجيب للعفو عنه فقال لهم ممكن "بس مصطفى يقول على اللي وراه"