مازلت أذكر ذلك اليوم الحزين;17 أغسطس1952 وكان يصادف عيد ميلادي الخامس عشر, كان قد مضي26 يوما فحسب علي قيام الحركة المباركة للجيش في23 يوليو.1952 البلاد تموج بالفرحة للخلاص من الحكم الملكي الفاسد وإداراته التابعة له وجموع الشعب تؤيد الضباط الأحرار تأييدا حماسيا مطلقا جامحا إذ رأت أنهم حققوا لها حلمها بالثورة التي طال انتظارها. كان تنظيم المظاهرات والمشاركة فيها لغة سائدة اعتمدها الشعب المصري, قبل قيام الحركة المباركة, للتعبير عن مطالبه واحتجاجاته, ولم يكن يدور بخلد أحد أنها يمكن أن تؤدي بأي حال إلي عقوبة الإعدام, في إطار ذلك الاعتياد علي لغة المظاهرات قامت في مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج, في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة مساء يوم الثلاثاء12 أغسطس1952, مظاهرة عمال المصنع ضد الإدارة المنتمية إلي العهد البائد والتي عاني منها العمال طويلا, وتعالت الهتافات بسقوط المدير والسكرتير العام ورئيس مكتب العمل, مستندين إلي ظنهم بأن الضباط الأحرار, وعلي رأسهم القائد العام محمد نجيب, سوف يرحبون بمشاركتهم في التنبيه إلي واحدة من بؤر فساد ذلك العهد البائد, ولم يكن واردا للحظة أن القائد العام محمد نجيب وفتيته الأحرار سوف يعيرونهم أذنا غير واعية, وهكذا فوجئ العمال ب الثورة البيضاء تكشر عن أنيابها وبدلا من التصدي للإدارة الظالمة التابعة ل العهد البائد إذا بها تضرب مظاهرة العمال وتقمعها بوحشية, من دون أي محاولة لتفهمها ودراسة بواعثها والتحقيق في دوافعها. ألقي القبض علي500 عامل, من بينهم أطفال تبلغ أعمارهم9 سنوات. وتشكلت علي وجه السرعة المحكمة العسكرية لمحاكمة العصاة, مكونة من بكباشي عبد المنعم أمين, ويوزباشي جمال القاضي, وصاغ محمد بدوي الخولي, وصاغ أحمد وحيد الدين حلمي, وصاغ خليل حسن خليل, وبكباشي محمد عبد العظيم شحاتة, وقائد أسراب حسن ابرهيم السيد, ويوزباشي فتح الله رفعت, وممثل الإتهام صاغ عبده عبد المنعم مراد الذي نشرت له الصحف صورته وهو يصلي! وتم تقديم ما يربو علي60 متهما للمحاكمة علي رأسهم محمد مصطفي خميس(18 سنة), والخفير محمد حسن البقري(19 سنة ونصف), وفي أقل من أسبوع, من12 أغسطس إلي17 أغسطس1952, صدرت الأحكام المروعة بإعدام خميس البقري والأشغال الشاقة المؤبدة وسنوات سجن أخري علي بقية المتهمين, وتم الإفراج عن بعض الأطفال شاءت رحمة المحكمة أن تترفق بهم لصغر سنهم رغم تلبسهم بسرقة بعض أمتار القماش! ولم يتنبهوا إلي أن العمال المتظاهرين لم يمسوا آلة واحدة من آلات الغزل والنسيج وأن قيمة تلك الآلات, التي حافظوا عليها, حوالي مائة مليون جنيه, بما يشهد أن المظاهرة لم تكن للتخريب, بينما قيمة التلفيات في مكاتب الإدارة وسيارات كبار الإداريين لم تتعد48 ألف جنيه, وكان مدير الشركة محمد حسين الجمال قد وقف شاهدا ضد العمال وهو يضع يديه في جيوبه إزدراء لهيئة المحكمة لكن, والحق يقال, إضطر رئيس المحكمة بكباشي عبد المنعم أمين أن يلفت نظره ليخرج يديه من جيوبه ففعل! بعد سماع الأحكام ظل خميس البقري يصرخان: يا عالم ياهو هاتوا لنا محامي... إحنا هتفنا بحياة القائد العام محمد نجيب...إبعتوا له برقية علي حسابنا قولوا له إحنا فرحنا بالحركة المباركة... مش معقول كده ياناس...!. صباح الأحد7 سبتمبر1952 الموافق17 ذو الحجة1371 خفق العلم الأسود خفقات الموت فوق سجن الحدرة بالأسكندرية معلنا إجراءات الإعدام,( وهذا يعني أن الشهيدين أمضيا منذ,17 أغسطس1952 الموافق26 ذو القعدة1371, وقفة عيد الأضحي وأيام العيد كلها في سجن الحدرة بالإسكندرية يصرخان ويستغيثان من الظلم ولا من مجيب!). مر مأمور السجن في الساعة الرابعة فجرا بالغرفتين رقم62 و63 من غرف الإعدام وسأل البقري: نمت كويس؟ فقال البقري:المظلوم لا ينام, عاوز أخويا ياخد مراتي وأولادي وأمي و3 جنيه من أماناتي ويروحوا للقائد العام محمد نجيب ويقولوا له....., ويسأل المأمور خميس: عاوز حاجة؟ فيرد خميس:عاوز أقول إني مش غلطان....المحامي ما جابش الشاهد محمد عبد السلام خليل... أنا عاوز شهود نفي وإعادة القضية من جديد....أنا ح أموت مظلوم ورب العباد أنا مظلوم...., تقول له أمه: شد حيلك يامحمد.., يقول لها خميس: يا أمي أنا مش ممكن أعمل حاجة وحشة....فاكرة المحفظة اللي لقيتها وبها عشرة جنيه مش قعدت أدور لما لقيت صاحبها؟, لحظة إدراك البقري أنه يساق لتنفيذ الإعدام يبكي بشدة: ولادي لسه صغيرين.... عاوز أقابل القائد العام محمد نجيب....الله هو الحكم بيتنفذ كده علي طول؟....يارب علي الظالم...., ثم طلب كوبا من الماء وقال: يارب أنا رايح أقابلك دلوقت وأشتكي لك... يارب... ده أنا عسكري وكنت رايح أخدم العهد الجديد...يا ناس محدش يعمل في معروف يخليني أقابل القائد العام محمد نجيب؟. وظل خميس يسأل الواعظ:... فقهني في ديني.... هل من مات مظلوما مات شهيدا؟, وكانت هذه آخر تساؤلاته قبل صعوده شهيدا مظلوما إلي دار الحق. المزيد من مقالات صافى ناز كاظم