إنشراح.. شخصية إبتكرتها بعد الثورة بعدة أشهر.. وشهدت صفحتى على الفيس بوك ميلادها.. ويعرفها جيدا كل أصدقائى على هذه الشبكة الاجتماعية.. إنشراح.. ليست من الأغلبية الصامتة.. وليست ثائرة.. لكنها كانت دوما حالمة بحياة أفضل.. تعبر عن رأيها أحيانا بخجل.. لا تفضل الانخراط فيما قد يجلب لها المشاكل.. تذهب للتصويت فى الانتخابات.. لكنها تعود أدراجها دون أن تصوت إذا ما كان هناك ما يدعو القلق فى لجنتها الانتخابية.. تتابع برامج التوك شو والبرامج الإخبارية.. وكل مقدمى البرامج لديها سواء.. ليس لها نجم مفضل.. ولم تكن تملك القرار المذهل بالإمساك بالريموت كنترول لتغيير المحطة.. إذا ما استفزها خبر أو مذيع أو ضيف.. كانت تكمل ما بدأت مشاهدته غاضبة محبطة حانقة.. إنشراح امرأة عاملة.. لكنها بطالة مقنعة.. حاصلة على مؤهل متوسط.. وتعمل فى إحدى الإدارات الحكومية فى مجمع التحرير.. لكن ميدان التحرير نفسه لا يمثل لها شيئا مختلفا عن باقى ميادين القاهرة المزدحمة بالبشر والسيارات فى ذات الوقت. عندما اندلعت الثورة فى 25 يناير 2011.. تغيرت انشراح بما لم تكن تعتقد.. لم تشارك فى الثورة.. لكنها تابعتها عبر كل القنوات المصرية والفضائية.. كانت تتسمر أمام شاشة التليفزيون حتى الصباح.. ثم تجرى العديد من المكالمات بأهلها وجيرانها وأصدقائها.. وعندما كانت اللجان الشعبية تغطى كل شوارع المحروسة ليلا.. كانت انشراح تتعهد كل ليلة بترموس الشاى.. وزجاجات المياة.. وبعض السندوتشات أو حتى البطاطا التى كانت تشويها بنفسها فى فرن بيتها.. للساهرين فى الشارع الذى تقطن فيه.. وبعدما انتهت ال18 يوما الأشهر فى حياة المصريين.. بذهاب المخلوع.. خطت انشراح خطوة أخرى فى منهجها القائم على كبت مشاعرها.. وقمع غضبها.. وللحقيقة فقد ساعدتها فى ذلك.. باستنهاضها للتعبير عما تشعر به.. حتى ولو كان الصراخ أو “اللطم” وهو أضعف الإيمان.. فكانت جملتى الشهيرة لها على صفحات الفيس بوك.. “صوتى يا انشراح” أو”ألطمى يا انشراح”.. هى سبيلها لنيل حريتها – المبدئية – فى التعبير عن نفسها. ولأننى أعرف البناء النفسى لشخصية انشراح – فهى بنت أفكارى – كان لا بد من حثها تدريجيا.. فقد بدأت معها ب”صوتى يا انشراح”.. ليس فقط لمجرد الصراخ وإخراج طاقة ما مكبوتة فى الأعماق.. لكن لأنه وسيلة للتعبير عن الرأى فى الكثير من الحوادث.. والتداعيات المتلاحقة التى حدثت على مدار أكثر من عام من عمر الثورة.. والتى كانت تقف أمامها مصابة بشلل وقتى فى التفكير.. فاغرة فاه.. مذهولة إلى حد الصدمة فيما تسمع وترى عبر شاشات التليفزيون.. من قتل وخطف واعتقال للمتظاهرين.. إلى الاقتحام المعد سلفا لمقار مباحث أمن الدولة فى محافظات عدة.. إلى سحب متعمد للشرطة فى وطن كبير والإصرار عليه.. إلى تفجير خط الغاز لمرات ومرات ومرات.. دهس متظاهرين سلميين يملكون تصريحا بالخروج فى مظاهرة وموعدها والمشاركين فيها فى ماسبيرو.. ثم قتل آخرين وفقء عيونهم فى محمد محمود الأولى.. ثم مطاردتهم وسحل البنات وضربهن بوحشية عند مجلس الوزراء.. واخيرا كارثة قتل 74 فى استاد بورسعيد تحت الأضواء الكاشفة.. كنت أطالبها بالصراخ لتعبر عن صدمتها وغضبها من كل ما تتابعه.. وهى لا تملك تغييره أو مواجهته.. حتى وإن قصدت مرات كثيرة ميدان التحرير وشارع محمد محمود ومجلس الوزراء لتقديم بعض الدعم للمعتصمين هناك.. بعض علب العصير أو سندوتشات الفول والطعمية.. وفى أوقات الاشتبكات التى كانت تجرى بمعدل مرة شهريا.. كانت تذهب بما تستطيع من قطن وشاش وميكروكروم ومطهرات.. والحقيقة أننى أثناء كل تلك الأحداث.. كنت أحيانا أطالبها – استثناء – ب”اللطم”.. فعند استشهاد “مينا دانيال” لم أملك مطالبتها بالصراخ.. فقد كانت مشرفة على الانهيار.. لأنها كانت تعرفه جيدا.. وكانت تحتفظ ببعض الفيديوهات القصيرة له على جهاز الكومبيوتر الخاص بها.. ثم عندما فقد “أحمد حرارة” عينه الثانية.. وعندما استشهد الشيخ “عماد عفت”.. والدكتور “علاء عبد الهادى”.. وفى الواقعة الكارثة فى استاد بورسعيد.. لم تستجب أبدا لكل نداءاتى لها.. ظلت تبكى فى صمت مغبونة لأيام طوال.. وفاجأتنى بالانسحاب تماما من كل الفعاليات الحياتية.. لا فيس بوك ولا تويتر ولا برامج توك شو.. وبدأ شعب الفيس بوك يسأل عنها.. وأنا فى حيرة من أمرى.. أين ذهبت بتلك الحالة البائسة التى لا أعرف خروجا منها!!.. منذ أحداث محمد محمود الثانية.. فى بداية فبراير 2012.. لم نشهد اشتباكات دموية شهرية كما اعتدنا على مدار عام.. ولا شهداء جدد بالعشرات كما فى كل مرة كما اعتدنا أيضا.. دخلنا فى منعطف آخر.. منعطف الكوميديا السوداء.. مسرحيات هزلية متتالية.. فى مجلس الشعب, فواصل من العزف المنفرد على طريقة فؤاد المهندس فى ساعة لقلبك.. من يؤذن للصلاة.. ومن يطالب بإلغاء تدريس اللغة الإنجليزية لأنها غزو أجنبى.. ومن ثم هى رجس من عمل الشيطان.. ومن يطالب بإلغاء قانون الخلع.. وفتح سن زواج القاصرات من شيوخ يزيدون عنهن بما يزيد عن 3 أضعاف أعمارهن.. كتشريع وطنى ينعش السياحة الخليجية!!.. ولا ينتهى الأمر عند ترشيح فلول نظام المخلوع على منصب رئيس الجمهورية.. أو استحواذ “الجماعة” على معظم مؤسسات مصر.. والسعى للاستحواذ على ما تبقى منها.. بما فيها مؤسسة الرئاسة!! كل هذا الهزل المبكى المضحك.. هو ما دفع انشراح للاختفاء, والكف عن الصراخ أو لطم الخدود.. فقد عبرت مرحلت الذهول والصدمة ودخلت طور استيعاب ما يحدث على الأرض.. ثم النزول إلى الميدان.. ولا أقصد هنا ميدان التحرير.. أقصد ميدان المعركة.. ففتحت لنفسها حساب على الفيس بوك.. وانضمت لحركة 6 ابريل.. التى فوجئت بأنها حركة ليست للشباب فقط, بل للمصريين جميعا.. وقد التقيتها مع كثيرين فى الاحتفالية التى أقامتها الحركة احتفالا ببدء انطلاق أعمالها للسنة الخامسة.. ولدهشتى فقد كانت انشراح تقف فى الصفوف الخلفية للقاعة وسط حشود الألتراس تهتف “إحنا الشعب الخط الأحمر.. يسقط يسقط حكم العسكر”!!