في أحد أيام معركة مجلس الوزراء، أوقفت شابين صغيرين، وسألتهما إن كانا من الألتراس. أجاباني بنعم. فسألتهما: أمال فين الشماريخ؟ فرد أحدهما: (والله مش لاقيين يا عمو.. بندور عليها في كل حتة، واضح أنهم سحبوها، بس عموما مش وقتها). عمو!! مش وقتها!! كيف يتجرأ أن يناديني بعمو؟ أدي اللي خدناه من الثورة!! تكرر موقف شبيه قبل أيام، بعد نشر مقالي الأخير الخاص بالجعجعة الإخوانية والعسكرية . قام أحد الشباب، الذي لا أعرفه شخصيا، ولن أقول اسمه، لأنني لم أستأذنه، بوضع تعليق علي المقال في صفحتي بالفيس بووك.. طلب مني أن أقرأ ما كتبه عن نفس الموضوع في مدونته، واسمها “إثبت مكانك”. كان مقاله بعنوان “سلطتان فاشيتان”. هذا أحد مقاطعه: ( بالنسبة للفاشية العسكرية، فهى كانت تريد أن تتحالف مع أى فصيل كبير ومؤثر ومنظم وفى نفس الوقت إصلاحى ولا يسعى بأى شكل من الأشكال الى قلب النظام الاجتماعى، كان المجلس يريد التحالف مع فصيل كهذا ليهدئ له الشارع الذى كان ملتهبا حينها، و ليحصر له الثورة فى استبدال مبارك بحاكم رأسمالى أكثر ديموقراطية أو أقل ديكتاتورية، دون أى مساس من قريب أو بعيد بمصالح رجال الأعمال وكبار الضباط، وعلى الجانب الآخر كان التحالف ضروريا أيضا بالنسبة للفاشية الدينية، فهى وصولية وسلطوية، هدفها الأول والأخير والأسمى هو الوصول الى السلطة حتى لو كان ذلك يستدعى التحالف مع الشيطان ذاته.) حييته علي المقال، متصورا أنه أحد طلاب الجامعات، ورجوته ألا يخاطبني ب “عمو”، مثلما فعل. فكان رده: أصل أنا عندي 15 سنة!! ولاد مين دوول؟ ولاد مين اللي عندهم 15 سنة وبيشاركوا في ثورة؟ يتابعون العلاقة بين الإخوان والعسكر، ويحددون موقفا منها؟ يكتبونه، ويطالبون الآخرين بالحوار حوله؟ ليسوا أبناء مناضلين معروفين، ولم يصلهم النضال والثورة بالوراثة. ولأن التكرار بيعلم “الشطار والأخيار”، علينا أن نكرر أنهم أبناء الثورة المصرية، وفقط. أنهم من رأوا الانكسار في عيون الأجيال السابقة، فقرروا ألا يعايشوه أبدا. هم القادرون علي مسح كل العسكر، والقتلة، واللصوص، وتجار الدين، وتجار العملة. لماذا فرض علينا أن نلطم الخدود علي الثورة اللي ما تمت، في كل مرة تواجهنا فيها مشكلة أو أزمة أو ضربة أو هزيمة في واحدة من المعارك؟ لماذا تفرض علينا الذاكرة الرديئة في كل هذه اللحظات، فننسي ونغفل انتصارات أخري مبهرة؟ نعم.. لدينا الآلاف من الانتصارات، أهمها هؤلاء.. شباب وفنانو الجرافيتي، الذين يجتاحون كل الحيطان والنواصي بخيالهم وثورتهم.. شباب الألتراس ممن لم ينسوا عشقهم الأول، لكنهم أجلوه، وقرروا الموت من أجل ثورة بلد بأكمله.. طلاب المدارس الإعدادية ممن رسموا بأجسادهم أسماء زملائهم المذبوحين في بورسعيد.. كل الطلاب الذين شاركوا في إضراب 11 فبراير، وكانوا المضربين الحقيقيين، الواعين بسلاح الإضراب وتأثيره.. هؤلاء المجانين، وإن لم نتفق علي التوقيت، الذين يقررون فجأة هدم جدران وسط البلد، ليتركوا العسكر بمجلسهم البرلماني عرايا، دون كتل إسمنتية تستر عوراتهم.. معبرين عن الثورة والرفض في أنقي وأقوي صورها.. وهذا الشاب الذي يخطو أول خطواته الجامعية، ويتذمر علي صفحات التواصل الاجتماعي من أن بعض أصدقائه عادوا للحديث عن الحب والغرام.. إلي آخر هذه الظواهر التي تلمع كل يوم، وفي كل الأمكنة. لماذا نتناسي هؤلاء؟ ولماذا نعود لحسبة توازنات القوي بعدد الجالسين في الغرف السرية، من نخب لا تستطيع العيش دون تنظيف أحذية السادة؟ هذه هي انتصاراتنا الحقيقية.. وهذه هي الثورة العصية علي الهزيمة. هؤلاء الشباب بكل تنويعاتهم هم أخطر أعداء المشير والمرشد والشاطر وثعلب النظام الدموي عمر سليمان. ربما يلحق بهم الدهاء السياسي والألاعيب الملتوية، بعض الهزائم المؤقتة، لكن حصيلة المعركة النهائية تتعلق بالتاريخ والمستقبل والإصرار.. والشباب والمراهقون يملكونها.. حصيلة المعركة النهائية الثورية، ليست رهنا بالموارد المالية للإخوان، وخبرتهم التاريخية في الخداع والخطاب السهل. اعتادت إحدي شخصيات فيلم “باب الشمس”، ليسري نصرالله، أن تكرر مع كل هزيمة، عبارة: (نبدأ م الأول).. عبارة تتناقض مع العلمية والمنطق، وتخالف مسيرة التاريخ والزمن. مش هنبدأ م الأول.. لقد بدأنا بالفعل ثورة، غيرت كل الواقع السياسي، وأدخلتنا كطرف حاسم في الصراع علي مستقبلنا. حدث بالفعل ما يمنعنا من العودة للوراء.. حدث في مجتمعنا ما لا يمكن تعديله أو إيقافه.. والواقع اليومي لا يشبه في أي شئ ما كان قبل يناير. تغيرت تركيباتنا النفسية أيضا.. لا أستطيع أن أكون ديبلوماسيا أو مؤدبا في كتاباتي ومواقفي.. لن أتمكن من مراعاة الحسابات الشخصية أو السياسية، ولن ألتزم بسقف.. هذا هو بعض فهمي للثورة.. لن يستطيع خالد البري أن يبتعد عن الكتابة في السياسة والثورة.. ولن يتمكن خالد يوسف، الذي درس السينما والمسرح في مدريد، من الكتابة عن الكرة ونسيان السياسة.. أسامة العبد، لا يستطيع الذهاب للخليج لإخراج المسلسلات التلفزيونية، يمتلك فقط إرادة التحدي والفعل، حين يتعلق الأمر بالمواجهة في شوارع وسط البلد.. والأهم منا جميعا هم هؤلاء الفتيان والشباب.. هذا الشاب صاحب الأعوام الخمسة عشر، الذي لن يتمكن من نسيان أصدقائه الملطخين بالدماء. يعرف من قتلهم، ويعرف من دلس علي دمهم.. أبناء أختي أمجاد، نديم ونور، لا يستطيعان العودة إلي الوراء، والحياة الطبيعية في أحضان مدارس الأحد. لم يتمكنا من نسيان الأيام الطويلة في ميدان التحرير، محاطين بجدتهما وبعائلتهما الصغيرة، ومحاطين بشعبهما.. بالناس الكتير.. ومن المؤكد أن آدم، ابن هاني درويش وداليا الحمامصي، صاحب السنوات الست، لن يمحي من ذاكرته، ومن نفسيته، دموع والديه طيلة يوم كامل، علي شباب الألتراس، وعلي “أنس” صاحب الابتسامة المنتصرة.. وآدم يريد أن يصبح أنس. يا أيها الجنرال، ويا خيرت الشاطر: هؤلاء هم أعداؤكما، وأعداء جميع الأراجوزات المحيطة بكما، محترفي مسح الأحذية. هؤلاء الشباب قادر علي التفكير، والنقد، والرفض.. لا ينفع معه مرشد أو مشير.. تركيبتهم النفسية والعقلية تفرض عليهم الحرية.. تمنعهم من السير ضمن قطيع البقر.. أيا كان نوع القطيع.. سواء كان في الثكنة.. أو بالغرف الكريهة التي يمارس بها الخداع بكلمة الله واللحية وبالوجه الكاذب.. القادر علي ذبحك.. وأن يرسل إليك البلتاجي ليخدعك بالتوافق ولم الشمل. أعزائي طرفي السلطة: حذار من أطفال الشوارع.. وأطفال الناس الكويسة.. فسوف يفجرون كراسيكم. [email protected]