تمر أيامنا علي مهل كالكلاب العرجاء، بينما تجري أعوامنا بسرعة الخيول التي تم إطلاقها للتو. ولذا، فإن معركة البشر مع السنين، نحتفل بقدوم الواحدة منها برهبة، ونحتفل برحيلها في فرح، نأمل الخير من الجديدة دون ثقة، ونطلب من الراحلة أن ترقد في سلام بعد أن نجحنا في قتلهن ونجحت هي في سرقة جزء من عمرنا، وقدرا لا بأس به من الذكريات. وإذا كانت الأيام توائم، يشبه كل منها سابقه ولاحقه، فالسنوات ليست كذلك، فكل سنة لها طريقتها الفنية في إفنائنا، وإذابة الشمعة التي نسميها الحياة. (1) لم تبدأ 2011 في أول يناير كما بدأت سابقاتها، يمكن القول بأن بدأت في لحظة من يوم 14 يناير، خرج فيها مواطن تونسي في شارع فارغ يصيح بأن "بن علي هرب .. بن علي هرب". لم يكن ذلك المواطن يصدق أن سنة ما ستحمل لنا تلك الهدية الطيبة. لم تكن الهدية في حاكم يسقط، ولا نظام يتهاوي، ولا ديكتاتور يرحل، ولا حرية تولد. وإنما حياة تدب في ملايين الموتي. لأول مرة تخالف السنوات طبيعتها، فتمنحنا رصيدا إضافيا من العمر، وهي التي تعودت أن تخصم. ما الذي جعل هذا الرجل يصرخ بهذا العمق، وهو غير متأكد من أن أحدا يسمعه؟ حاولت وكالات وقنوات وصحف أن تعرف اسم هذا الرجل، ومهنته وطبيعة حياته، وأن تكشف عنه ما تستطيع. لكنني لم أفعل. اعتبرت هذا الرجل هو كل رجل وامرأة كان قد وصل إلي حافة اللا شيء. من يحاول أن يفهم لماذا صرخ الرجل بهذا الشكل، عليه أولا أن يفسر لماذا يصرخ الأطفال عندما يولدون؟ ولماذا تقترن الولادة بالدم؟ هل لأن المواليد يخرجون من العدم إلي الحياة؟ في ال 18 يوما المجيدة، رأيت عشرات الآلاف من صاحب صيحة بن علي هرب، كان ميدان التحرير غرفة ولادة كبيرة، لملايين المبدعين الذين يستعدون لاستقبال النور، وللتنفس بحرية، وللحياة. (2) عندما كنا نسير في شارع التحرير، متجهين إلي كوبري الجلاء، لنعبره نحو ميدان التحرير، ونحن نعلم أنهم ينتظروننا هناك، بعصيهم وقنابلهم وخرطوشهم ورصاصهم، كانت هي هناك. سيدة في السبعين، تسير ببطء شديد، وتهتف بإيقاعها الخاص: عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية، يسقط .. يسقط حسني مبارك. توقف حمدي عبد الرحيم، وتوجه لها: "يا أمي روّحي، أديكي شايفة الناس كتير". فقالت بمنتهي الثبات: "يا ابني، أنا ما خرجتش علشان أرجع، إنتو ليه عايزيني أرجع أموت تاني؟". يومها أدركت أننا سننتصر، لأن رجلا من بشتيل (قرية فقيرة صغيرة قريبة من إمبابة) كان يتحدث بجدية عن رفضه لفكرة أن يكون عقاب حسني مبارك هو الرحيل للسعودية، أو السجن، أو حتي الإعدام، لقد "ابتكر" الرجل عقابا، وهو أن يعيش مبارك في قرية لعبة (القرية المجاورة لبشتيل والأفقر منها) وأن يصرف معاشا 260 جنيها، بحيث يضطر جمال وعلاء وهايدي وخديجة للوقوف في طوابير الخبز، وملء المياه من الحنفيات العمومية، والانتظار بالساعات أمام مخزن الأنابيب. وضع الرجل يده علي الجرح، وسكبه ملحا، فصرخنا من الألم والسعادة، وولدت الحرية. (3) يولد الطفل بلا بصر، أو ببصر ضعيف كيلا نغضب الإخصائيين، ثم يري بعد الولادة بقليل، وعندما يري فإنه لا يشعر بالارتياح في بادئ الأمر قبل أن يتعرف علي الموجودات. بعد ولادة يناير بقليل، رأينا، ولم نكن نري. رأينا، ولكن الرؤية كانت مرتبطة بالغياب. عندما استشهد سيد بلال عرفنا أن هناك سلفيين، وعندما احترق المجمع العلمي عرفنا أن أن لدينا مجمعا علميا. وعندما استشهد مينا دانيال عرفنا أن هناك "مناضلين" لا ينتمون لمقاهي وسط البلد، وعندما عروا أشرف البنات عرفنا أن لدينا نساء مخلوقت من كرامة، وعندما استشهد الأبطال عرفنا قيمة الحياة، وعندما غاب نظر حرارة، رأينا الطريق إلي الحرية. (4) صديقي الألتراس الأهلاوي، وصديقي الألتراس الزملكاوي، كم مرة جلسنا في مقهي من المقاهي، نحصي نقاط الدوري، ومن فاز ومن انهزم، وكم هدفا سجله مَن في شباك مَن؟ وكم مليونا يستحق جدو، وكم فريقا يفاوض شيكابالا؟ ربما كان المشترك بين هؤلاء جميعا هو الشكوي من ظلم "الحكام"، وبطش وزارة الداخلية التي تخصصت في خنق البهجة الوحيدة لدي هؤلاء الذين لا يجدون ما يبهج سوي إشعار خصومهم بالقهر. يقينا، أعرف أن السنوات الأخيرة خلقت أجيالا من المشجعين لا يفرحون بفوز فريقهم بقدر ما تبلغ سعادتهم مداها بسقوط منافسيهم في عار الهزيمة. لم تكن تونس تمثل لنا أكثر من منافس كروي عتيد علينا هزيمته، وعندما فازت مصر بكأس الأمم الأفريقية 2010، كان محلل المباراة نجم تونس طارق دياب، وكنوع من المجاملة قال مقدم البرنامج في قناة الجزيرة، إن فوز مصر أسعد العرب جميعا، وهو ما لم يطقه دياب كمتحدث باسم الجمهور التونسي، فقاطع مقدم البرنامج، لا تتحدث عن "العرب جميعا"، ففوز مصر لا يعني سوي المصريين. لو كانت تونس الفائزة بالبطولة لكان لدينا الشعور نفسه. في ذروة هذا الموقف المأساة، كان يتصادف أن يلعب فريق مصري أمام فريق، الأهلي أمام الترجي مثلا، فيصبح الزملكاوي في حيرة، هل يتمني هزيمة الأهلي باعتبار العداوة المحلية، أم يتمني هزيمة الترجي باعتبار العداوة العربية، وفي النهاية يكون الاستقرار علي المبدأ: الأقربون أولي بالعداوة. ومن هنا ظهر هتاف: "هنشجع تونس .. يا اولاد المومس". كان الشعار يشرح فلسفة الكراهية: تونس عدوتنا، لكننا سنشجعها لأنكم أعداؤنا الأصليون. يا لها من مسخرة تلك التي كنا نعيشها. عندما قامت الثورة في تونس، وجدتني أكتب علي حائطي ب"فيسبوك" ذلك الشعار الذي رددنا طويلا، لكن توجيهه الآن مختلف، ف"أولاد المومس" هم مصريون وتوانسة، أو هكذا يفترض، يقفون ضد حرية مصر وسعادة تونس. الشعار الآن لم يعد مبتذلا. وقف الألتراس في الثورة حيث لم يكن أحد يتخيل أن يقفوا، كانوا يظنون أنهم يلهون الشباب بإلقائهم في بحار الكراهية، فإذا بهذه الكراهية تتحول إلي كراهية مقدسة، سحر انقلب علي ساحره. الألتراس دافعوا عن الثورة، كما لم يدافع عنها أحد، وقفوا يوم الجمل يتقدمهم نادر السيد الذي كان يحرس مرمي مصر، ثم كان يحرسها شخصيا عندما ارتمي في ذلك المشهد المهيب علي قائد الحصان الذي اقتحم التحرير يريد الهلاك للثوار، وأسقطه من عرشه ليسقط معه نظام بأكمله، نظام وقف ضد "الجماهير" أهلوية وزملكاوية ودراويش واتحاد ومصري ومواطنين. (5) أبصم بالعشرة، ولو كان عندي أكثر لبصمت بها، أن هناك دماء معلقة برقبة مبارك ورقبة العادلي، وأعني علي وجه التحديد دماء الشهداء التي سالت في تفجيرات كنيسة القديسين ليلة رأس السنة لعام 2011، وربما كانت تلك علامة مهمة أن تكون أول نقطة دماء في ولادة مصر الجديدة هي دماء قبطية، هكذا تسير الأمور في نطاقها السليم. كانت هذه التفجيرات بمثابة قطنة وضعها النظام في آذان المصريين حتي لا يسمعوا الأصوات الهادرة القادمة من الغرب. من تونس، لكنها كانت قطنة مغمسة بدم ولحم لن أصفه بأنه لإخوتنا في الوطن، وإنما دمنا ولحمنا جميعا. وبالفعل، لم يعد أحد يهتم بالأخبار القادمة من العاصمة التونسية، ولا بثورة الياسمين، ولا بالياسمين نفسه، وتحول الأمر إلي غضب طائفي وغرق الفيسبوك بوك في صور الهلال يحضن الصليب، والشارات السوداء، والحداد، وتحول المحللون من التفكير في الثورة إلي ثورة التفكير في حل للحرب الأهلية المقبلة علي الأبواب بين مسلمي هذا الوطن ومسيحييه. في السابع من يناير اتحدت كل برامج التوك شو في برنامج واحد تولي رئاسة تحريره طارق حسن رئيس تحرير الأهرام المسائي (جريدتي وقتها). فيما بعد تذكرت أغنية في مسلسل "ريا وسكينة" كتبها أحمد فؤاد نجم ولحنها ووزعها وغناها عمار الشريعي، كانت الأغنية تقول: يا عينك يا جبايرك يا تِعبان المَفازة شرك حاضر تمللي وضميرك ف الأجازة وريقك سلسبيل ونابك سن فيل وتقتل القتيل وتمشي ف الجنازة (التعبان أي الثعبان، والمفازة هي الصحراء، والمعروف أن ثعبان الصحراء هو أشد الثعابين سمًّا). كان النظام يبالغ في مشاهد الأسي، ويفتح الباب لحوارات غير مسبوقة حول مطالب الأقباط، وحقوقهم. كان السماح بنشر مطالب الأقباط بهذا الشكل المنفتح مثيرا للريبة، لكن التفسير الجاهز وقتها كان أن الحادث ضخم، وغير مسبوق وليس له سياق. لكن التفسير الذي أصبح واضحا فيما بعد هو أن النظام كان يسعي لإجهاض الثورة ولو بتفسيخ الوطن نفسه. بعدها بشهور كانت دماء قبطية أخري تفتتح "الطلق" الثاني للولادة، عندما راح 25 مسيحيا ضحية العبث العسكري، الجديد تلك المرة أن النظام العجوز لم يكتف بتوجيه اللطمة، وإنما أضاف لها لمسة من الكذب، والتهييج ضد الشهداء. كم أنت جميل يا مينا كم أنت جميل (6) كانت ولادتي الخاصة يوم 28 يناير من ميدان مصطفي محمود، صلاة الجمعة مدهشة، أراد خطيب المسجد في بدايتها أن يتملق السلطة، ولما وجد زمجرة من المصلين، اضطر لمهادنتهم، وبدأ الحديث عن نسيان الدنيا الفانية والتركيز في الجنة التي فيها "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر"، صاح أحد المصلين بأن مصر فيها أشياء كثيرة لكنها منهوبة. بمجرد أن انتهي الشيخ من الصلاة، وقبل أن يصل إلي الهاء في "السلام عليكم ورحمة الله" الأخيرة، كان الهتاف يرج المهندسين كلها، ودونما أدني ترتيب مسبق: "الشعب يريد إسقاط النظام". (7) مش هنمشي .. هو يمشي دعني أخبرك بأن كل أشعاري التي كتبتها، ويمكنك أن تضيف لها الرواية والمقالات وكل ما كتبته، لا يساوي حرفا من تلك الجملة، التي أشعر أنها أهم ما سأتركه لأولادي. استيقظت في جوف الليل، مع الساعات الأولي ليوم السبت 29 يناير، عرفت أن حسني مبارك ألقي بيانا، بالنسبة لي كان مبارك بائسا، يعيش أيامه الأخيرة كرئيس، بل لعله لم يعد رئيسا بالفعل. شاهدت تسجيلا للخطاب التعيس الذي أعلن فيه تعيين نائب له هو عمر سليمان، وإقالة الحكومة وتكليف الفريق أحمد شفيق بتشكيل حكومة جديدة. بين النوم واليقظة شعرت أن هذا الخطاب المتأخر، ربما تم تسجيله قبل 25 يناير، لأنه منبت الصلة عن الأحداث، وأن عمر سليمان وأحمد شفيق قد تم حرقهما بعد أن كانا بعيدين عن دائرة الغضب الشعبي لسنوات، وأنه لم يعد هناك مجال للسياسة، وأهم شيء أن مبارك قد انتهي. في الصباح، لم أكن أدرك أبعاد الأمر جيدا، ولا أمتلك تصورا محددا لما سيحدث. فقط كنت علي يقين بأنها مسألة وقت، نزلت إلي الجريدة علني أجد تفسيرا أو أحصل علي معلومات. وجدت محرر الصور قد حصل علي صور كثيرة لجمعة الغضب، ربما من الوكالات. كان أهم ما يميز الأمر بالنسبة لي هو صور الدبابات التي كتب عليها يسقط مبارك، وضباط الجيش المحمولون علي الأعناق. عرفت أن الجيش نزل الميدان، ولم يستخدم أي عنف حيال الثوار، وأن المتظاهرين هتفوا: الجيش والشعب إيد واحدة. نفي رئيس التحرير كل هذا، نفاه بشكل يؤكده، كان منهارا، لم يكن وحده، كان كذلك كل الصحفيين المنتفعين أعضاء الحزب الوطني، من لهفوا مئات الآلاف وربما الملايين، من يشهدون زورا علي صفحات الجرائد يوميا، من يعملون مندوبين لوزاراتهم في الجريدة، وليسوا مندوبين لجريدتهم في الوزارة. كانت محزنة كبيرة، ولا أحد يعرف معلومات عن أي شيء سوي انهيار الحزب الوطني، وتفسخ قياداته، واستقالة جمال مبارك وأحمد عز منه، وأشياء أخري لم أتبينها فقد توقفت عن متابعة أخبار الحزب، بعد أن أصبح في خبر كان. أحد قيادات الجريدة، ممن لا ينتمون للحزب الوطني، لكنهم أخطر وأسوأ من أعضائه، كان يتحدث عما سيكون بمنتهي اللامبالاة، قال إنه لا يهتم بكل هذا. من يركب سيركب هو معه، هو لا يطمع في كرسي السائق، لكنه في كل الأحوال يجلس في الكرسي المجاور له. شعرت بالغثيان من كلامه، وبدأت أفكر في النزول، لأن الحقيقة ليست هنا، الحقيقة هناك في ميدان التحرير. اتصلت بي زوجتي وقالت إن التليفزيون لا يذيع سوي استغاثات وأنباء عن بلطجية يهاجمون البيوت فيسرقون المجوهرات ويغتصبون النساء ويحرقون المنازل. أفهمتها أن هذه لعبة مكشوفة، وذكرتها بفيلم كنا قد شاهدناه يحمل اسم "المستعمرة"، ويحكي عن مدينة سكنية لها مدير يخير السكان دائما بأنهم إذا أرادوا الحصول علي الأمن فليتازلوا عن الحرية، وأنه هو من كان يزرع الفتنة والخوف في المدينة. وذكرتها بأن نصف أخوالها كفيلون برد أي بلطجية، وأن النصف الآخر كفيلون بإسقاط أي نظام. ونزلت من الجريدة في شارع الجلاء متجها إلي ميدان التحرير فوجدت مجموعة من البشر خارجين من الميدان في اتجاه رمسيس، سألتهم ما الذي حدث، فأخبروني بأنهم سمعوا عن البلطجية الذين يقتحمون البيوت، فوقفت أتكلم معهم بصوت عالٍ، وقلت لهم ما قلته لزوجتي في التليفون. بدأ العدد يتزايد حولي، حتي وصلنا إلي مائتي شخص تقريبا، واتفقنا علي أن كل مجموعة تقسم نفسها بحيث يذهب البعض لحماية البيوت، بينما يرجع النصف إلي التحرير، وهكذا وجدتني أسير وسط ما يزيد علي مائة شخص، وكنت أهتف: مش هنمشي .. مش هنمشي، ثم قفز في ذهني أن من يجب أن يمشي هو حسني مبارك، فقمت بتعديل الهتاف، ولم أكن أتصور أنه بعد التعديل سيصبح أحد أيقونات الثورة، لكن هذا حدث. ليصبح: "مش هنمشي .. هو يمشي".