قابلت العشرات من السودانيين، معظمهم تم القبض عليهم وهم في طريقهم إلى إسرائيل. طلبت من أكثر من واحد منهم إن يكتب لي عن رحلته، وكيف تم القبض عليه. ميان كان واحد منهم، ميان هو مطر/غيث في لغة قبائل الدينكا الجنوب سودانية. كتب كيف ضربوا رفيقيه الاريتريين بالرصاص في سيقانهم، ثم استولوا على ملابسهما، وكل ما معهما من مال. ووصف كيف استولوا على جزمته الرياضية، وضربوه بالدبشك على وجهه. كانت ضروسه تؤلمه. وبدا سعيدا، مثل أسد إفريقي جريح، حين تصرفت له في مضادات حيوية ومسكنات. كانت هناك فوارق بين الجنوب سودانيين وغيرهم من الأفارقة..الأفارقة ينزعون لان يكونوا طيبين، الجنوب سودانيين، يعجبونني أكثر، واثقين من أنفسهم ويتصرفون بتحدي. وأحس بهم في كل تصرفاتهم، على الأقل قدامي، يريدون أن يقدموا أنفسهم كثوار وطالبي حرية، باقي الأفارقة لا يشغلهم هذا الهم. معظم الجنوب سودانيين، وخاصة أبناء قبائل الدينكا، يتكلمون عن جون جارانج باحترام شديد، وينظرون له كمقاتل آنساني، يريد تحريرهم من ظلم العرب. جورج قلواق، الذي تزاملت معه في زنزانة واحدة أكثر من ثلاث شهور، كان ينظر للعرب باستخفاف شديد، وهو يحكى كيف انتصروا على 24 دولة عربية.. قلواق الحاصل على دورة في الكنتري سيكوريتي، من كوبا، منحاز تماما لفكرة استقلال جنوب السودان. كنت ومازلت أرى السودان قادرا، لو صار نموذجا ديمقراطيا، على الضغط على مصر، من مؤخرتها ودفعها نحو التقدم. ولما تكلمت مع قلواق عن نموذج ديمقراطي كونفدرالي، يحول السودان إلى أقوى دولة في إفريقيا، ويكون نموذجا ضاغطا على نظام مبارك. قال قتلوا جون جارانج، لأنه يريد سودانا قويا وموحدا. سابقا انتفض ميان حين تكلمت معه عن وحدة السودان، حينها حسيت إن الوحدة تعني لميان، إن يظل عبدا إلى الأبد. كنت المح خلافات مكتومة، بين الرجال من قبيلة الدينكا وقبيلة النوير، وكانوا يتزاعقون أحيانا. جارانج وخليفته سيلفا كير، من قبائل الدينكا، شباب قبائل النوير، حكوا لي كيف أن بداية النضال الجنوب سوداني، قام به رجال من قبائل النوير، وكانوا يقاتلون بالنبلة والخناجر. ولما سألت ميان، عن السبب في اختياره الهجرة لإسرائيل، حكي عن الفارق بيني وبينه، وكيف انه أعطى للحكومة، الفرصة خمسين عاما، لتجلب التقدم، ولكنها أبت إلا أن تظل في العصور الوسطى. ولما تأكد من فشلها اتخذ قراره، أن يدخل بنفسه الزمن، ولم يكن قدامه سوى إسرائيل. من وجهة نظره، محاولة للخلاص الذاتي، أما محاولتي تخليص مجموع. عند هذا الحد أحس بالخجل من ميان، الطبيعي أن ابحث أنا عن الفرداني على الأقل قبل ميان. هذا الشاب الإفريقي النصف أمي. ” مش عايزينهم معانا.. دول كانوا رايحين لإسرائيل.. إسرائيل بتحطهم في الجيش عشان يحاربونا..” يصرخ مساجين، وبعضهم من البدو، حين تريد الحكومة أن تحط معهم الأفارقة في نفس الزنزانة.. كنت أحس أن اغلبهم كذابين، وصراخهم ليس سوى مزايدات لإظهار وطنية بائسة بهدف التقرب من سجانيهم. مثلا: كلما زارني صديق، من خارج سيناء، ينفتح أبي مثل شريط طويل، يحكي عما فعلته إسرائيل معه، وكيف استولت على أراضي قبيلته، وزرعتها بالمستوطنات. ورغم أن كلامه إجمالا صحيح، إلا أني أكثر من مرة طلبت منه: غير هذا اللحن. أقترح عليه وعلى البدو جميعا، أن يتحدثوا عن حقوقهم كمواطنين، وان يتكلموا مع الآخرين عن تفاصيل حياتهم، كيف يزرعون ويأكلون ويشربون ويلبسون وينامون..وبماذا يحلمون.. الخ. فحديثهم عن أدوارهم الوطنية هو تأكيد في المؤكد. وحكي في المحكي. وهم بهذا الكلام يبدون وكأنهم “يحطوا حالهم” في موقف دفاع نفسي. وهو موقف قد يجلب عطف الآخرين. إلا أن البني ادم الطبيعي لا يريد من الآخرين عطفا وإنما احترام وتعاطف.. مواضيع ذات صلة 1. مسعد أبو فجر كمائن متحركة: عن ملف قطر الذي بلع ملفات أربع من أكبر الدول في زماننا.. 2. مسعد أبو فجر : كمائن متحركة: من الغربانيات إلى أبي زعبل.. 3. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة: سي في لسيارتي.. 4. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة.. مانديلا فري 5. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة