* عندما قال لي رجل مسن ” يدخلوا مين يا أستاذ مش إحنا اللي ندخل.. كان نفسي أشوف جسد البابا وأقوله يطلب من ربنا يفرجها عليا وعلي ولادي * عجزت أن أضع يدي في جيبي لأخرج محفظتي والتقط منها كارنيه نقابة الصحفيين لأدخل لأني سأزيد المهم ألما * كيف دخل هؤلاء المطارنة والأساقفة في سياراتهم الأنيقة –واحدة منها ثمنها يتعدي ربع مليون جنيه – وتركوا تلك العيون الحزينة تسألهم الرحمة * ملعون اللي يحرموا ناس بسيطة من يوم بتعتبره مهم جدا.. وملعون اللي يزعل رجل ولا ست مسنة ويوقفهم علي الباب زي اللي بيشحتوا لا أعرف من أين أبدأ ولا أعرف ان كان بامكاني في تلك اللحظة أن أكون محايداً عند رصدي للمشهد ولأكون أكثر صراحة , الأن لا أريد أن أكون محايدأ , في تلك اللحظة أنا منحاز ومنحاز ع الأخر الي هؤلاء الذين يقفون في تمام الساعة ال 11 مساءاً أمام البوابة 4 للكاتدرائية المرقسية بالعباسية يرتجفون من شدة البرد لانهم ببساطة وكما نقول بالبلدي ” واقفين في ملقف هوا ” أمام حديقة كبيرة مفتوحة من كل الجوانب سأبدو صغيراً جداً في نظري لو حاولت أن أبدو محايداً وأنا أقف ساعة وسط هؤلاء الذين قدموا من أقاصي الجنوب نجع حمادي وقنا وأسيوط ومن الشمال اسكندرية وبورسعيد ودمياط كل أملهم أن يقبلوا يد البابا – كان هذا الأمل قبل أن يغادروا منازلهم – الأن أصبح الأمل مقتصراً علي أن يحتموا بأسوار الكاتدرائية من البرد حتي يمر الليل الطويل الذي لا يرحم ومن ثم يحضرون صلاة الجنازة علي جسد البابا شنودة الثالث في الصباح ” عشان ياخدوا بركة “ مؤلم جداً أن تقف الي جانب رجل خمسيني لا يفعل شيء سوي الانتظار وكل ما في جسده ينتفض من البرد , ساعات طويلة لم يبارح مكانه , فقط عندما يأتي زائر من اصحاب الياقات البيضاء أو الجلباب الأسود يتحرك الي الوراء ليس بارداته هو انما بقوة ” الزق ” من الواقفين امامه الذين بدورهم ” اتزقوا ” من فرق الكشافة التي تقف متكتلة أمام البوابات ومن خلفها تقف متفرجة قوات الشرطة العسكرية , يتحرك الي الوراء وبعد أن يعبر الوافد الأنيق الذي يرتدي ملابس تدفيء عائلة بكاملها يعود مرة أخري بقوة ” الزق ” أيضاً الي مكانه الأول , وجهه منتفخ بشدة وأحمر كما الرومان من قسوة البرد , يديه لا تغادران جيوبه كأنه تركهما في البيت قبل أن يأتي , نحيف جداً , ينظر الي الباب دائمأ وكأنه يرجوه أن يفتح كأن الباب هو ملاذه بل يمكن القول كأن الباب هو جنته التي طال انتظارها . عندما دار حديث بيني وبينه وللحقيقة أنا فقط سألته : هم مش بيدخلوا حد ؟ وانطلق يتحدث كأنه وجد من يسمعه أخيراً قال بصوت يمكنه أن يزيل جبل من مكانه من شدة الألم : يدخلوا مين يا استاذ مش احنا اللي ندخل لو اعرف كدة ما كنتش جيت والله , كنت مفكر ان هشوف جسد البابا وهبوسه وهقوله يطلب من ربنا ان يفرجها عليا وعلي ولادي واخد بركته لكن ولا شوفته ولا حتي دخلت جوة شكلهم هيبيتونا في الشارع هنا كمان في البرد ده ” . لم أستطع الرد فقط ضغطت علي كتفه في محاولة للتخفيف عنه وانصرفت بعيدا أحدث نفسي ألم يخطر ببال المطارنة والاساقفة الذين يناقشون ترتيبات تلك الايام مرة هؤلاء الناس ؟ الم يطرأ علي بالهم مرة واحدة أن يسألوا عنهم ؟ ألم يفكروا مرة في أن يوفروا لهم ما يريدون ويتوقفوا لمرة أن يفكروا في كبار رجال الدولة وكيفية توفير الراحة – اللي هم مش محتاجينها اساسا – ويوفروها للذين يحتاجونها بالفعل؟ كيف يذهب هؤلاء الذين يديرون الأمور الي النوم وهم يعرفون أن هناك – اي كانت الأسباب والتبريرات – من يبيتون في الشارع بلا غطاء ؟ ببساطة وحتي لا نعقد الأمور خارج الكاتدرائية في تلك الليلة ما يقارب الألف شخص ما المشكلة لو تم السماح لهم بالدخول والسماح لهم بالمبيت في جزء من الساحة وعمل كردون خشبي حولهم . لن تحدث مشكلة . ” والله العظيم المكان كبير وهيكفي الكبار والمهمين واللي لابسين كويس والملوك والسفراء والناس المهمة الي جاية والله هيكفي “ متي يفكر هؤلاء الذين يتولون مناصب اي مناصب فينا ؟ متي يكون همهم الشاغل ليل نهار هو نحن وليس اخرين ؟ متي يبحثون عن راحتنا وكيفية توفيرها ؟ متي نجد شخصاً يتولي مسئولية يقول : كيف نخدم الناس المواطنين الذين أتوا بنا الي هذا المنصب ؟ واحد من هؤلاء الذين يقفون علي الأبواب يرتعشون من البرد وجد نفسه يرجع الي الخلف بقوة ” الزق” اياها لكي تمر سيارة BMW من الباب فقال بصوت عالي جداً : هو بابانا احنا ولا باباكم انتم ؟ احنا الي عاوزين نشوفه انتوا بتشوفوه طول الوقت ارحمونا بقي . في لحظة ما اقتربت من الباب وحاولت مثل كل مرة أن أبدو مميزاً وأستعرض قوتي ولكني في تلك المرة عجزت , عجزت أن اضع يدي في جيبي لأخرج محفظتي والتقط منها كارنيه نقابة الصحفيين حتي أتمكن من الدخول في تلك المرة كنت أعرف أنني سأزيد البرد برداً وسأزيد الألم ألما , لم أستطع أن أمارس عملي – أعرف أنه خطأ مهني شديد – واحاول الدخول الي الكاتدرائية , فكل هؤلاء الواقفين خارج الباب لم يكن البرد ليؤلمهم بقدر ما يؤلمهم طردهم للخارج ورؤيتهم لأصحاب السلطة ومن يرتدون الجلباب الأسود يتميزون عنهم تباً للسلطة وتباً للجلباب الأسود في تلك اللحظة و تباً لعملي أنا أيضاً تلتقط خيوط الكلام من هنا ومن هنا , تحاول تجميعها في جمل واضحة فتجدها في النهاية تجسيد لمأساة دولة لم تتغير حتي اليوم حتي بعد قيام ثورة دفع ثمنها شباب امن بفكرة التغيير , تشعر ان من يتحدث عنهم الواقفون خارج البوابات بشر لا يريدون للتغير أن يمسهم ويصلحهم ولا حتي يريدونه أن يمر من أمامهم اعتادوا العيش بمنطق السلطة المنفردة قرارات بلا حسابات وانشغال بالتفاهات وعدم اهتمام بمن هم اصحاب المصلحة ” المواطنين ” , يفكرون في الشكل علي حساب المضمون , ينسون وعودهم في لحظات التألق يجرون خلف سراب اسمه ” شكلنا قدام الناس ايه ” . ملعون ابو الشكل الي يخليني ابيت ناس في الشارع عشان افضي الساحة لكبار الزوار , ملعون ابو الكبار اللي هيحرموا الناس البسيطة انها تحضر يوم هي بتعتبره مهم جدا عندها . وملعون كل اللي يزعل رجل ولا ست مسنة ويوقفهم علي الباب زي اللي بيشحتوا . لا أعرف صراحة كيف استطاع من أتخذ قرار إغلاق الباب أن يغلقه في وجه هؤلاء البسطاء الذين أتوا وهم يتصورون أن هناك من سيستقبلهم بالترحاب في يوم كهذا . لا أعرف كيف ذهب لينام لا أعرف ايضاً كيف دخل هؤلاء المطارنة والأساقفة في سياراتهم الأنيقة – رأيت واحدة منها ثمنها يتعدي ربع مليون جنيه – أمام تلك العيون الحزينة والتي تسألهم الرحمة , الي المقر وراحوا يأكلون ويشربون ويخططون ثم خرجوا مرة أخري من امام نفس العيون وذهبوا الي غرفهم للنوم . هل من اجابة ؟ ارحمنا ياالله