كعادتي كل يوم أذهب إلي جاري «عم بشندي» حيث يعود من عمله بعد غروب الشمس ثم ينام حتي التاسعة مساءا فأذهب إليه دون إستدعاء ونبدأ السهرة سوياً .منضدة صغيرة عليها مفرش مهتريء يغمره «عم بشندي» باللب بأنواعه والسوداني «مكسرات الشعب» التي يستعيض بها عن المكسرات التي تكسر ميزانيته قبل أضراسه.يلقاني «عم بشندي» بإبتسامة وجهه الدائمة ويسألني الأسئلة الروتينية : عامل إيه وأخبار الدنيا معاك تلاحقها إجابتي المعتادة الحمد لله علي كل حال.يعد لي الشاي وأكرر عليه تنبيه كل ليلة :شاي خفيف يا عم بشندي بلاش الحبر اللي بتعمله ,ويطمئني بذات كلمات كل ليلة : من عيني انت عارف أنا بطلت السجاير العلبة بقت ب 15 جنيه بعيد عنك عشان كدة بشربه حبر!.ما بين قزقزة اللب وتقشير الفول السوداني وإحتساء شاي في ليل برده قارس يمسك عم بشندي بريموت الريسيفر ويقلب في القنوات ويبدأ بقناة الفراعين وتوفيق عكاشة وقبل أن أطالبه بحذف القناة يفحمني بكلماته :والنبي يبني الراجل دة هو اللي حاسس باللي زي حالاتي كفاية إنه بيكلمنا زي ما نكون أصحابه علي القهوة , قلت له خليها مصطبة أحسن.بضحكات متتالية لا تلبث أن تفرغ من فم «عم بشندي»فيأتي الفاصل الإعلاني طويل المدة فيمسك بالريموت مستعملاً حقه بالضيافة وإذا بقناة مودرن سبورت ومدحت شلبي وجهبذته السياسية وفتاوي وكلام مرسل خارج المستطيل الأخضر أساسه الترويع وتبلد روح الثورة !.مع نفخات تنطلق من فمي وزفرات متكررة تسحب شحنات غضبي أعرض علي عم بشندي متعشماً في مشاهدة لقاء خالد علي مرشح الرئاسة الشاب مع يسري فودة وما كدت أنتهي من عشمي وعم بشندي يصوب إليّ ركلة تطبق أسناني وتلجم لساني بسؤاله هو مين يسري فودة دة يبني؟.لا أجد إلا إني أجاوبه بذكر الله وإستغفاره فيتذكر طقسه الدائم بمشاهدة قناة الناس وأبتسم له في محاولة لفك عنكبوتية هذه الليلة قائلاً:يا عم بشندي يا مؤمن!,ولم تلبث كلماتي أن تنتهي والداعية خالد عبد الله يستكمل ما قطعته الفواصل الإعلانية في الفراعين ومودرن من تحيات وتبجيلات للعسكري ومخططات إسقاط الدولة .يبدو أن عم بشندي قد انهمك في المشاهدة وبدا علي قسمات وجهه التأثر الشديد وإقتضابه وإتكازه علي ظهر الكنبة الفاصل بينه وبرودة الحائط وإذا بالإشارة تضعف والصورة تنقطع وعم بشندي تنفر عروقه ضارباً علي كفيه وكالعادة يعطيني الريموت في الأزمات فقط مستغيثاً : مفيش إشارة شوف إيه اللي حصل يبني كدة , فوجدت سقوط طبق الدش من شدة تيارات الهواء فصبرّته قائلاً:إنت عارف أمشير والشتا بتودع!.في الحقيقة كنت أحاول جاهداً ألا يتعكر صفو هذه الليلة أكثر من ذلك فإستبدلت التليفزيون الأرضي بالدش وإذا بفيلم تسجيلي عن محمية رأس محمد وفي قناة أخري نشرة باللغة الفرنسية وعم بشندي يتثاءب فبادرت بكلمات الذوق والأدب أستئذنك يا عم بشندي أسيبك تنام ..آه والله يبني عليا شغل من صباحية ربنا ..ماشي يا عم بشندي تصبح علي خير. كم أشفق علي عم بشندي وكل من يقع علي شاكلته من هذا الإعلام الذي يتلاعب بمواطن عائد من عمله وقد إستنفذت قواه وأراد أن يقضي سهرته بعيداً عن عكننة المدير وعناء العمل.يبدو أن المواطن الكادح كالكرة التي يتقاذفونها مروجو الشائعات وملبسو الحق بالباطل والذين يدسون السم في العسل ويتحدثون بلهجة تثير ذعر هذا المواطن علي لقمة عيشه وأمنه فيدعو الله بحلول الإستقرار والرضا برحيل مبارك وإن بقي النظام!.يقع المواطن البسيط فريسة ما بين إعلامي يتحدث بلغة شعبية ركيكة ويُنصِّب نفسه زعيماً للفلاحين والصعايدة ويخاطبهم بلغتهم التي يعشقونها فيقترب منهم أكثر ويبث سمومه وأوهامه,وإعلامي رياضي يفتي في السياسة ويثير الفتن والشراذم مستغلاً شغف المواطن علي الرياضة وتدبيسه في حديث سياسي يسير علي منهج الإستقرار علي حساب الحقوق,ثم بالإعلامي الإسلامي ومواطن يأمل في تكفير سيئاته ويشاهد قناة إسلامية فيكفر بالثورة ويرسل لعناته عليها ذاهباً إلي فراشه من أجل قوت يومه في صباح اليوم التالي!.إنها أبواق إعلامية من فارشي الملاءة ولاعقي البيادة وضعوها في آذان الشعب ومن خلفهم عازفو الطبول ومن أمامهم الراقصون علي نهيق الحمار!