تمر اليوم ذكرى رحيل ابن خلدون ذلك العالم المؤسس لكثير من العلوم مثل علم الاجتماع، وعلم فلسفة التاريخ، كما يعد أحد رواد الترجمة الذاتية (الأوتوبيوجرافيا) وهو –أيضا- عالم الحديث البارز، وفقيه المالكية المتفرد.. هذا غير إسهامه القيم في مجال الدراسات التربوية وعلم النفس التعليمي، وهو من حيث أسلوب الكتابة العربية مجدد وصاحب نقلة نوعية عز نظيرها. انطلق ابن خلدون في مذهبه الفكري المؤسس لعلم الاجتماع في جوانبه السياسية من تجربة ثرية إذ كان رجل دولة تقلب بين المناصب العليا منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره.. بعد أن غادر مقاعد الدرس مضطرا بعد أن قضى وباء الطاعون على أبويه وأساتذته عام 1348م، لكن القدر هيأ له فرصة مواصلة الدراسة والبحث بعد أن عينه السلطان " أبو عنان" ملك المغرب الأقصى عضوا في مجلسه العلمي بفاس، لكن الأمور سرعان ما تغيرت بسبب الوشاية ؛ فزج بابن خلدون في السجن لمدة عامين عرف فيهما قسوة الطبيعة البشرية وميلها نحو العدوان.. وهو ما أكد عليه في مقدمته إذ يقول" فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعضهم على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع.. ويضيف والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم". لقد عانى ابن خلدون كثيرا من الوشايات وتقلب أمزجة الحكام وأصحاب الرياسة، وقد لازمه ذلك الأمر طيلة حياته في بلاد المغرب العربي والأندلس وكذلك عندما جاء إلى مصر، التي قضى بها ثلث عمره متنقلا بين سخط السلاطين ورضاهم.. حتى أن البعض لا يستطيع أن يحصي مرات تقلده منصب قاضي قضاة المالكية، مع تكرار عزله. ربما وصل ابن خلدون إلى اليقين الكامل إلى أن أمور السياسة والحكم لا تؤمن عواقبها، كما أنها تفسد طبائع البشر، وربما حثه ما رآه من رجال الحكم من عدم اعتبار بمصائر السابقين، وولعهم بالبطش إلى اعتزال هذا العالم والتفرغ الكامل لإنجاز كتابه الأهم " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" فأتمه بعد أربع سنوات من العمل المتواصل في قصر بني عريف في "قلعة ابن سلامة" بمقاطعة وهران بالجزائر. لقد غبن ابن خلدون كثيرا في حياته إذ كان مستهدفا طوال الوقت من قبل شانئيه من منعدمي الموهبة الناقمين على كل نابه.. لكن هذا الظلم صاحبه بعد رحيله أيضا.. فحسب ما ذكره وليد نويهض عنه أنه كان ضحية رؤية متطرفة من جانبين.. جانب من أفرطوا في وضع أعماله كلها في موقع الريادة، واعتباره المؤسس المنفرد لعلم الاجتماع الحديث مع اتهام موجه لمعظم المفكرين الأوروبيين على مختلف مدارسهم بسرقة أفكاره من دون ذكر فضله.. ومن جانب آخر ظهر فريق من الغالين اتهم ابن خلدون بالسرقة واستخدام مصطلحات ومفردات غيره من المفكرين المسلمين واستعمالها بمنهجية مختلفة من دون ذكر فضلهم عليه وريادتهم في مختلف الحقول التي تحدث عنها. ويرى نويهض أن كلا الفريقين قد جانب الصواب؛ لأنهما حاولا قراءة ابن خلدون قراءة منبتة الصلة عن واقعه وعصره وزمانه دون إعادة قراءة أعماله في ضوء التركيز على أسس نظريته في المعرفة ودراستها على مستويين.. المستوى الأول هو: عناصر وعي ابن خلدون، وكيف قام بتركيب فلسفته وتاريخه من عناصر مختلفة؟ أما المستوى الثاني فيتعلق بمصادر ابن خلدون الفكرية وكيف قام بتحليل تلك القراءات واستخلاصها وإنتاج نظريته في "علم العمران". وليس غريبا علينا -نحن العرب- أن نكون آخر المستفيدين من فكر ابن خلدون ومنجزه العلمي، كما ليس مستغربا أن يكون الغرب قد سبقنا نحو تلك الاستفادة، فلقد استطاع المفكرون الغربيون استلهام رؤية مؤسسة للنظام السياسي الحديث آخذين في الاعتبار ما أكد عليه ابن خلدون من شروط تطور المجتمعات علميا واقتصاديا وثقافيا؛ وقد "طبّق عدد من الباحثين المعاصرين نظريات ابن خلدون على مجتمعاتنا المعاصرة وعلى الجيوسياسة التي نشهدها الآن. وتمثيلا لا حصرًا، هذا ما فعله الباحث الفرنسي غابرييل مارتينيز غرو في كتابه "موجز في تاريخ الإمبراطوريات. كيف تنشأ، وكيف تضمحلّ". كما أفاد المؤرخ البريطاني "إريك هوبزباوم" في كتابه "عصر التطرفات" من نظرية ابن خلدون في تفسير أسباب انحسار الاستعمار تدريجيًّا بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الدول القومية في العالم الثالث ثم ما حدث بعد ذلك من خلخلة لتلك النظم بفعل الثوراتُ الاجتماعية والسياسية، التي اندلعت في عدد من بلداننا العربية بعد عام 2010م.. واستغلال ذلك من قبل القوى المهيمنة، وإعادة إنتاج بعض النظم السلطوية التابعة على نحو أسوأ. يُعزي بعض المتخصصين في الدراسات المتعلقة بالفكر الخلدوني أسباب عدم الإفادة من تراثه إلى أن الساسة في العالم الثالث يعتبرون تناوله لنظرية نشأة الدول وسقوطها نذير شؤم.. فهو يرى أن العنف ينشئ العنف، والبطش بالرعية مهما طال يؤذن بالثورة، كما يذهب إلى أن الشعوب لا يسلس قيادها إلا بالعدل والرحمة. يقول ابن خلدون: "إن الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها". لا شك أننا نحتاج إلى إعادة قراءة ابن خلدون في ظل المتغيرات التي عصفت بعالمنا العربي بعد ما سمي بثورات الربيع العربي التي كانت نتائجها انتشار الخراب في ربوع الوطن العربي وخروج دول من بوابة التاريخ إلى غير رجعة في المدى المنظور.. إن تلك القراءة الجديدة جديرة بأن تلهمنا حلولا ورؤى لذلك الواقع الذي تشابكت صوره وغمضت أحواله حتى صار حاضره لا يعلم أكثر من غائبه.. حيث صار الالتباس طبيعة لكل الأمور العامة التي غاب عنها الحسم وبعد عنها الوضوح، فصار الناس في زماننا أسرى أوهام استبدلت بالحقائق.. وهو ما حذر منه ابن خلدون الذي غادرنا في مثل هذا اليوم من ستمائة واثني عشر عاما.. وما زالنا نراوح في المكان ذاته.