حملت الفصول الأخيرة للحرب السورية واقعا استطاعت سوريا، مع حليفها الدولي الروسي على وجه الخصوص، فرضه على القوى الإقليمية والدولية ذات الشأن بالحرب، وهو استثناء الفصائل الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة من الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي توفره تلك القوى والأممالمتحدة، وقد عملوا على تدعيمه، لسنوات، إلى حد تسليح العديد من الفصائل من الولاياتالمتحدة مباشرة، وبعدها إطلاق نفير علني قبل منتصف عام 2017 من المخابرات المركزية الأمريكية لعدد من الفصائل كي تتوحد، إداريا وتسليحيا، تحت قيادة أمريكية. في أروقة الأممالمتحدة وسياقات الدبلوماسية والسياسة الدولية عمل الحلف السوري الروسي تحت هذا السقف، وقبل، بحكم عوامل واقعية ضاغطة ومركبة، أن يحصر "أغلب" عملياته الكبرى على الأرض خلال السنوات الماضية في ضرب داعش والنصرة، دون أن يُغفل مواجهة الفصائل الأخرى التي يثير ضربها ضغط "المجتمع الدولي" عليه، بصفتها "غير مرتبطة بتنظيم القاعدة" أي "معتدلة". واستمرت عملية من التعطيل المتبادل: يضع المجتمع الدولي خطوطا حمراء على خطوات الجيش السوري لتحرير مناطق سيطرة الفصائل، باعتبار أن من يسيطر عليها ليسوا إرهابيين، بل ثوارا، وتستخدم سوريا نفس المعيار الدولي فتدفع بأن النصرة، الإرهابية، حاضرة بالفعل على الأرض في تلك المناطق، ومن ثم تستكمل العمليات العسكرية. بعد سنوات من الجدل الدائري غير المُجدي، المفتعل من القوى الغربية، حول كيفية فرز المعتدلين عن سواهم، وبعد القضاء على مجمل وجود داعش وقوتها في سوريا (باستثناء جيبين كبيرين)، كان طبيعيا أن ينتهي الأمر إلى مفترق طرق مفصلي أمام النصرة، التي تُعَد، حاليا، حجر عثرة أمام تلك الفصائل وسبب لتعرضها لضربات السوريين والروس، إذ يضفي وجودها شرعية دولية على التحرك العسكري السوري لضربهم جميعا، ومن هنا صعد التناقض الثانوي بينها وبين النصرة، بعد انحصار أكبر الجيوب "غير الداعشية" في إدلب وغرب حلب ودرعا والغوطة الشرقية لدمشق والقنيطرة والجولان، وهي جيوب يسيطر عليها بشكل عام مزيج من النصرة وتلك الفصائل. إزاحة عبء النصرة: وقاية من الضربات السورية شمالا، في إدلب وغرب حلب، اجتمعت فصائل في إطار جبهوي هو "جبهة تحرير سوريا"، تكون بشكل رئيسي من أحرار الشام ونور الدين زنكي وألوية صقور الشام، وفصائل أصغر، وانخرط في مواجهات عسكرية طاحنة لتصفية النصرة، التي أطلقت على نفسها اسم "هيئة تحرير الشام" خلال معركة حلب الكبرى، أواخر عام 2016، لتتفادى تصنيفها كإرهابية من جانب القوى الدولية والأممالمتحدة، وتتعرض للتحلل الذاتي حاليا وقد انشق عنها مؤخرا، في سياق تلك المعارك، فصيل "جيش الأحرار" لينضم إلى الجبهة المقابلة، وهو ما اضطرت لتعويضه بالتحالف مع مكونين اثنين من الفصائل المسيطرة في جبهة الشمال، الحزب الإسلامي التركستاني وجند الملاحم، بالإضافة إلى إفراجها عن أسرى داعش لديها وأخذ البيعة منهم ليقاتلوا في صفوفها، في تعبير واضح عن تراجع موقفها على الأرض أمام الضربات الثقيلة للتكتل الذي يحاربها، في مواجهات شهدت، للمرة الأولى بين الفصائل المتناحرة، استخدام للصواريخ الحرارية وأنماط من القصف الثقيل والشامل. يمثّل هذا القتال ذروة ضعف النصرة بعد الانسحاب التدريجي للدعم الخليجي عنها، واتجاه الرموز السلفية الجهادية في الخليج، في الكويت ومملكة آل سعود بشكل رئيسي، إلى دعم الفصائل الأخرى، التي توفر خيارا أكثر عملية لهم ولمشروعهم إذ تتمتع بغطاء وشرعية من القوى الدولية، وتحظى بتمثيل سياسي لدى تلك القوى وفي المسارات التفاوضية الثلاثة للحرب السورية: أستانة وسوتشي وجنيف، وجميعها تتضمن المشاركة الفاعلة فيها شروطا، ضمنية حينا ومباشرة حينا آخر، بالقطع مع النصرة وداعش أو مواجهتهم عسكريا، أي أنها أقل تعرضا، نسبيا، للضربات الروسية، نظرا لوجود قناة تفاوضية روسية معها من خلال تركيا، وأكثر قابلية للحياة من النصرة، التي رفعت قطروتركيا الغطاء والدعم عنها منذ انتهاء معركة حلب، مع بقاء قناة تنسيقية تركية معها في إطار ضمان تركيا اتصال نفسها بكل فصائل الشمال السوري. من هنا وضع الداعم الخليجي رهانه على تلك الفصائل، التي يُفترض فيها، على عكس النصرة، المشاركة في ترتيبات الحل النهائي للحرب السورية وتركيبة وضع ما بعد الحرب، وقد وضعت الولاياتالمتحدة لها، خصيصا، مشروعا تفاوضيا جديدا يجعلها تصب جهودها ومطالبها، خلال المفاوضات القادمة، على مسألة الدستور الجديد المأمول وضعه لسوريا، ومسألة الانخراط في المستويات الدنيا من الحكم المحلي في البلاد، عوضا عن التركيز على إقامة حكومة انتقالية والمشاركة فيها، وهو المسار الذي عطّله السوريون والروس بشكل شبه تام. جنوبا، في الغوطة الشرقية لدمشق، قرأت فصائل أحرار الشام وفيلق الرحمن وجيش الإسلام (ويمثّلون نفوذا سعوديا قطرياتركيا مشترك) دلالة ما حدث في مجلس الأمن، حين عجز المجلس عن عرقلة العملية العسكرية السورية لتحرير الغوطة، إذ تضمن قراره بوقف إطلاق النار ثغرة وضعتها روسيا هي استثناء جبهة النصرة منه، فبعثت الفصائل إلى الأمين العام للأمم المتحدة برسالة مباشرة مفادها أنها ستنهي وجود النصرة في الغوطة، في خطوة قُدر لها أن تستبق المزيد من التقدم السوري على الأرض، وهو ما لم يحدث، حتى الآن، مع تواصل الاختراق السوري للغوطة، المدعوم سياسيا، في المقام الأول، بفتح معبر لمغادرة المدنيين والمسلّحين الراغبين في تسوية وضعهم في منطقة مخيم الوافدين، شمال الغوطة، وهو ما يعطي، وأعطى منذ اليوم الأول، الشرعية المنطقية للعملية العسكرية، بصرف النظر عن الغطاء الدولي الذي يتحدد وفق مصالح القوى الغربية، ومع استمرار استهداف الفصائل للمدنيين الذين يحاولون التوجه إلى المعبر، مما يرفع عنها أي غطاء للشرعية بصرف النظر عن وجود جبهة النصرة في الغوطة من عدمه.