هي كلمات أعلم مقدماً أنها لن تمنع الطغاة عن مواصلة سياسات التجبر والطغيان، لكنها إن شئت تسميتها فهي صرخة مدوية في البرّية ربما يصل صداها يوماً إلي سابع سماء، فتأتي العدالة الإلهية بديلاً عن عدالة البشر التي يبدو أنها لن تأتي أبداً. مطلوب من الكاتب أن يحافظ علي إتزانه وسط تلك الموجات الهادرة من خليط العنف والغباء والاستبداد، وأن يُمسك جيداً بمشاعل النور والأمل فلا ينطفئ وهجها أبداً وإن هبت الرياح العاتية فجرفت كل أمنيات وأحلام المستقبل.. هي معادلة مستحيلة إما أن تقبلها كما هي دون تأفف أو ترفضها بشكل قاطع، فتبحث حينها عن وظيفة أخري أكثر هدوءاً وأقل تحدياً. لا أظنه سيأتي بجديد إن أتينا علي ذكر ذلك الواقع الذي بات يبعد بمسافات طويلة عن أي احترام للآدمية أو سيادة القانون، ولن يحدث فارقاً أيضاً إن أشار أحدنا بأصابع الغضب إلي ذاك النظام السياسي الذي ابتعد بإرادته عن أي أعراف للحُكم الرشيد، متوهماً أن الشعب سيقبل بالاستسلام ذليلاً.. لا شيء سيجدّ إن شكونا من ظلم يتمدد يوماً بعد الآخر تحت شعار "محاربة الأشرار"، ولا أحد سيلتفت للنداءات الشتي إلي السلطة بعدم احتكار الرأي والقرار، حتي بدا جلياً لمعظمنا أنه لا مفر من المضي قدماً نحو منزلق "الدولة الفاشلة". كل ما سبق ذكره لا يجب أن يؤثر علي عزيمة الكاتب أو يحد من مثابرته وتطلعه إلي الأفضل.. فليس مطلوباً منه ركوب الأمواج وتسلق الجبال وهزيمة الأعداء بقبضة يده علي طريقة أفلام "الأكشن"، بل دوره أكبر وهو أن يكتب بصدق وإصرار دون توقف، وأن ينحاز دائماً إلي البسطاء فلا يستجب لغواية السلطة والشهرة والثروة، وألا يشيح بوجهه وقلمه يوماً عن خطايا الحُكام التي صرنا نعيشها ونلمسها الآن في مصر. لا أعرف إن شهدنا حقبة زمنية مشابهة لحقبة "نور عنينا" لا سيما وقد بلغنا مرتبة غير مسبوقة من العبث يصعب تصديقها إذا ما دُونت في كتب التاريخ.. فكيف ستقنعك الرواية التي تحكي بأن شعباً صفق لحاكم نكص وعوده، ثم صفق بحرارة عندما تم تهديده ومعايرته علناً، ثم صفق بحرارة أكثر عندما ضاق رزقه واُنتزع صوته ورأيه وحريته، ثم أخذ يصفق ويصفق في كل مرة ينزلق أكثر إلي الهاوية، وها هو ما زال يواصل هيستيريا التصفيق وكأنه مبرمج ليصفق فقط دون عقل، بجانب إمكانية إضافة "خاصية" الرقص بخفة إرضاءٍ للحاكم إن تطلب الأمر ذلك. علي الأغلب سيطرح أي شخص يقرأ تاريخ حقبة "أد الدنيا" سؤالين وحيدين في غاية البداهة، وهما: كيف بلغنا هذا المستوي من تدهور أوضاع المعيشة وغياب العدالة؟ وأين كانوا كتّاب هذه الفترة ومثقفوها، ولماذا صمتوا وهادنوا؟.. سؤالان وجيهان ساُتطوع للإجابة عن السؤال الأخير فقط لاعتبارات مهنية بحتة. معظم المحسوبين علي مهنة الكتابة أو المنتسبين زوراً إلي عالم الثقافة يوالون النظام الحاكم من باب المنفعة، فلغة المصالح هي من تحكم العلاقة بينهما ولا اعتبار مطلقاً لإيمانهم أو ثقتهم في السلطة الحاكمة.. هم يدركون جيداً بؤس ما وصلنا إليه من أوضاع وسياسات لكنهم يدركون أيضاً أن يد النظام تفرط في السخاء حين ترضي، ثم تكون مؤلمة وباطشة حين تغضب، لذا رأوا من الأسلم مسايرتها وتملقها لحين زوالها لأي سبب، ثم التهيؤ لعرض خدماتهم المجانية للسلطة التي ستليها، وهكذا. في أيام كهذه حيث يجري بدأب حبس وتشويه كل معارض وحالم بالتغيير، وقد بلغت ذروتها بحبس وملاحقة مسئولون كبارا في الدولة لإخلاء الساحة لسلطة بعينها، وجدت البقية القليلة من الكتّاب الملاذ في الصمت وإيثار الفرجة دون تعليق أو تعقيب.. رفضت أن تتورط في حملات النفاق الإجبارية، فانسحبت في هدوء هرباً من "قعدة البورش" وحتي لا تنغرس فيها أنياب ومخالب كهنة النظام، والتي تمزق بوحشية من يجاهر بنقد السياسات أو يتلعثم لثوان عند ترديد المقولة المحببة للنظام وهي: "آمين.. وهو السميع العليم". أظنك تعرف أكثر بكثير مما ذكرته لك أو ما أنوي ذكره، فما كتبته ليس بجديد وربما كتبه غيري مراراً، ولن يحدث أي تغيير إن أتينا علي ذكره مرة تلو الأخري.. ألمست أي جديد بعد أن قرأت ما تعرفه وتحفظه عن ظهر قلب؟ أشعرت بأي تغيير؟ بأي تحسن؟.. لا أسخر منك مطلقاً بل اطمئنك فقط بأن أحلامنا أنا وأنت قد فشلت بامتياز، وأن العدالة والديمقراطية في مصر.. "تعيش إنت يا حاج"!.