بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    قبل عودة البنوك غدا.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 27 إبريل 2024    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    صندوق النقد: مصر ستتلقى نحو 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بنهاية أبريل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    جماعة الحوثي تعلن إسقاط مسيرة أمريكية في أجواء محافظة صعدة    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    نداي: أهدرنا العديد من الفرص ضد دريمز.. والجماهير تنتظر وصولنا لنهائي الكونفدرالية    كولر: النتيجة لا تعبر عن صعوبة المباراة.. لم أر مثل جمهور الأهلي    عبد القادر: تأهلنا للنهائي بجدارة.. واعتدنا على أجواء اللعب في رادس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    دينا فؤاد: تكريم الرئيس عن دوري بمسلسل "الاختيار" أجمل لحظات حياتي وأرفض المشاهد "الفجة" لأني سيدة مصرية وعندي بنت    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



1 شاطئ كونيتيكت
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 12 - 2015

رحل الكاتب الأيرلندي الأمريكي آرثر ميلر منذ عشر سنوات، فكان موته بداية جديدة لكلماته وفكره حيث انتبه إليهما الكثيرون، وبدأت الأبحاث والدراسات تتناولهما، والروافد الدرامية وخاصة المسارح تتفاعل مع كتاباته بمعالجات مختلفة تظهر جوانب جديدة ورؤي كان يقصدها وفلسفة خطط لأن تنتشر بعد رحيله، ومن بين مصادر الانتشار؛ حواراته التي انفرد المسرح اليهودي باثنين منها ونشرا بمجلة "باريس ريفيو " الأدبية الإنجليزية عامي 1966 و1999، وأفرج عنهما بمناسبة ذكري مئوية ميلاده الأولي التي حلت في أكتوبر الماضي حيث أسهب في الأول وظهر قويا متحمسا، بينما بدا في الثاني واهنا قليل الكلام، ولكنه ظل متمسكا بمبادئه ورؤاه وأكثر إصرارا.
أجرت الصحفيتان "أولجا تشارلز" و"روز ستيرون" هذا الحوار مع ميلر في منزله الأبيض الذي تحيط به الأشجار علي حافة أحد التلال بولاية كونيتيكت بمنطقة جبلية غرب المحيط الأطلنطي، حيث قبل آرثر أن يلتقي بهما ويجري حوارا صحفيا بعد امتناع امتد لعدة سنوات، وبدا هادئا واثقا يشبه بيته الذي يجمع بين نظام المدينة وروح الريف.
وبدأ الحوار من المكان الذي اختار أن يعيش ويكتب فيه، وإن كان يتوافر فيه مناخ جيد للكتابة:
"حسنا، أنا استمتع به، إنه لا يشبه الأماكن الطبيعية الشاسعة التي يمكن أن تتوه فيها بفكرك ووجدانك، فإحساسك في الضواحي يختلف كثيرا عن المدينة، واعتقد أن ذلك يرتبط بالمسافات وتباعدها أو تقاربها بصرف النظر عن وجهة نظرك في المكان".
وبعد استهلال قصير لم تنتظر المحاورتان كثيرا، حيث ذهبتا مباشرة إلي نقطة تحاولان بها إثارته ليتحرر سريعا من حذر البداية وحالة التربص، فكان طرحهما أن قصصه القصيرة مثل "النبوة" و"لا أحتاجك أكثر" أقل قوة درامية من مسرحياته اللاحقة لها:
"نادرا جدا ما أشعر عند كتابتي لقصة قصيرة أني بلغت الذروة الدرامية التي أشعر بها عندما أكتب للمسرح، وعندها أصل إلي أقصي رؤية ممكنة، ولا حيلة لك معي؛ فلا يمكنك مراجعتي أو الاختلاف معي، فكل شيء يحدث في حينه لا مفر منه وصولا إلي آخر علامة فاصلة، في القصة القصيرة أو أي نوعية أخري من النثر لا يمكنني أن أهرب من شعوري الشخصي الذي يلازمني رغما عني وهذا العجز من الأخطاء التي تحدث معي بدرجة أقل بكثير عند الكتابة للمسرح، ربما خيالي يصور لي ذلك، ولكن هناك أمرا آخر؛ يتعلق بما يدور في ذهني في حينه، فكتابة مسرحية جيدة تمثل لي شيئا عظيما وعندما أكتب قصة قصيرة فإني أقنع نفسي واهدئ من روعها بأن أردد عليها "حسنا.. أنا أفعل ذلك لأني في هذه اللحظة لا أكتب مسرحية"، فهناك شعور بالذنب يتملكني حينها، من الطبيعي أن أستمتع بكتابة القصة القصيرة، ولكن يبدو أني احتفظ بكل الأشياء التي تحتاج لمجهود كبير من أجل كتابة المسرحيات والهين يذهب للقصة القصيرة".
وبعد أن استشعرتا أنه تخلص إلي حد كبير من أي تكلس وأنه سيتحدث بكل جوارحه وسيعبر لسانه عن كل أفكاره ومشاعره، عادتا به لبداياته ككاتب وتركتاه يتحدث كما يشاء:
"كتبت أول مسرحياتي في متشجن خلال إجازة في فصل الربيع استغرقت مني ستة أيام فقط عام 1935، كنت صغيرا علي أن أقوم بذلك وأن أبدأه وانتهي منه في غضون أسبوع، وقتها لم أكن قد شاهدت أكثر من مسرحيتين فقط؛ لهذا لم أكن أعرف ما يجب أن يستغرقه الفصل ولكن رفيقا لي ممن يعملون في تصميم الأزياء للمسرح الجامعي قال لي "حسنا، إنها حوالي أربعين دقيقة تقريبا"، فقمت بضبط جرس التنبيه بساعتي ووضعتها جواري وأنا أكتب، هكذا بدا لي الأمر ثم اتضح لي فيما بعد أن أداء المشاهد يحتاج مزيدا من الوقت، ورغم هذا اكتشفت أن الإحساس بالوقت كان لدي منذ البداية في مسرحيتي الأولي، ولم أكن في حاجة لسؤال أحد عن ذلك وأن المسرحية التي كتبتها كانت في إطارها السليم ولم تكن تحتاج لأي تعديل علي الإطلاق.
كان أقصي ما أرجوه أن أصبح كاتبا مسرحيا، فكنت عندما بدأت أكتب؛ أشعر أن المسرح هو الأكثر إثارة واهتماما وأن المنتهي الذي يمكنني بلوغه بالمحاولة المستمرة أن أصبح عنصرا رئيسيا فيه، كنت اعتبر نفسي أحد من يسبحون في التيار الذي بدأ مع إسخيلوس منذ ألفين وخمسمائة عام مضت من الكتابة المسرحية، فهناك عدد قليل من الروائع في المسرح خلافا لغيره من الفنون، وواحدة منها فقط ربما يمكن أن تجذب من هم في عمر التاسعة عشر، حاليا لا أظن أن كتاب المسرح يهتمون بالتاريخ؛ اعتقد أنهم يشعرون بأنه بلا أهمية".
بعد أن تركتاه يتحدث عن بدايته وفكره ومشاعره في حينها استوقفتهما عبارته الأخيرة فتدخلتا لتأخذاه تجاه إحساس الكتاب المسرحيين الشباب وأن يحدثهما عن ذلك بشيء من التفصيل وعن علاقته بهم :
"اعتقد أني ليس لدي الفرصة لمجرد الحديث معهم، فأغلبهم إما جاهل بالماضي أو يشعرون بأن أشكال الكتابة القديمة مريعة جدا أو معقدة للغاية، قد أكون مخطئا، ولكني لا أجد لملحمة التراجيدية في الدراما أي تأثير فيهم".
صدمهما بإجابته المقتضبة فعادتا به إلي المسار الأول ومرحلته العمرية والأدبية الأولي، حتي تقتربا منه وتتضح ملامحه أكثر سألتاه عن المسرحيين القدامي الذين أثاروا إعجابه أكثر عندما كان صغيرا وأثروا فيه:
"حسنا، في البداية الدراما الإغريقة نظرا لقالبها الرائع وتماثلها، فخلال نصف الزمن المسرحي الأول لا يمكن تكرار أي أجزاء من القصة والشخصيات ، هذه النصوص الأسطورية غالبا ما تكون خالية من أي تعابير مؤثرة، وفي ذلك الوقت لم يكن لدي أي خلفية لكي أعرف ما هو حقيقي أو غير حقيقي في هذه النصوص المسرحية، ولكن بناءها يتسم بالوضوح الشديد، فنظرة واحدة فقط لبناء بعض النصوص القديمة التي نجهل كيفية استخدامها حتي مع الحداثة، والجاذبية الخاصة بها؛ تجعلني لا أترك هذا النموذج أبدا، وتجعله ملتصقا بي".
رغم محاولتهما ألا تقاطعاه وأن تتركا له أكبر مساحة ممكنة ليتحدث كيفما يشاء ولكنه أغراهما بحديثه عن الإغريق ونصوصهم الأسطورية، لهذا سألتاه عن مفهوم المأساة عنده :
"تبدو بالنسبة لي الشكل الوحيد للدراما، والبقية مجرد محاولات للاقتراب أو الهروب منه، ولكن في كلتا الحالتين تظل المأساة الركيزة الأساسية لأي عمل درامي حقيقي، مع العلم أني غيرت رأيي في ذلك عدة مرات، واعتقد أن إجراء مقارنة مباشرة أو حسابية بين أي عمل معاصر والمآسي الكلاسيكية مستحيل لأسباب تتعلق بالأمور الدينية والسلطة؛ تتمثل في الوصول للهدف عبر التضحية ببعض الرجال الذين بعضهم يُعبد والآخر يُحتقر، وصولا إلي القوانين الأساسية والجوهرية التي تبرر وجود ضحية وتضمن الشعور بالأمان المنشود".
مرة أخري تندفعان وتتدخلان لتعيدا ميلر للحديث عن تأثير هذا النهج الفكري وتلك الرؤية في أعماله وعن استخدامه لهذا النموذج من المأساة والتضحية في مسرحيته "بعد السقوط" :
"لا يمكنني أن أجيبكما عن هذا السؤال، لأني وبصراحة لا أستطيع أن أفصل ذهنيا بين المأساة والموت، وأنا أعلم تماما أن البعض لا يجد سببا لارتباطهما معا، ولكني لا أقدر علي تفريقهما لسبب واحد يكفي، أجمله في عبارة واحدة "لا شيء مثل الموت ولا يشبه الموت أي شئ آخر"، فلا يوجد ما يؤثر في العقول مثل مشهد الموت ولا أتخيل نفسي أتحدث عن المأساة بدونه، لأنه إن لم تنته مشاهدة ساعتين أو ثلاث بدون زوال الشخص المؤثر كليا في المتفرج فلن يدرك كيف تضرر وإلي أي حد كان يعاني، ربما بدت المأساة والتضحية من هذا المنظور في موت ماجي".
لم يرضهما ما قاله عن بداياته التي كانت بكل تأكيد مؤثرة في مسيرته التالية لهذا رجعتا به إلي سنوات عمره الأولي بتساؤلهما عن المسرحيات التي شاهدها قبل أن يبدأ مسيرته مع الكتابة :
"عندما كنت في الثانية عشرة علي ما اعتقد، أخذني أبي في ظهيرة أحد الأيام إلي المسرح، وكنا نعيش وقتها في هارلم والتي بها ما بين مسرحين أو ثلاثة التي كانت تعمل طوال الوقت، والكثير من النساء يقضين وقت الظهيرة أو جزءا منه لمشاهدة العروض، وكل ما أتذكره عن هذه المسرحية أن هناك بعض الناس علي ظهر سفينة والخشبة كانت تهتز، بينما هناك بعض من أكلي لحوم البشر الذين يمثلون قنبلة موقوتة مختبئة، وهم يبحثون عنها، ويا لها من إثارة، ومسرحية أخري تناقش مشكلة أخلاقية تتمثل في تناول المخدرات، بها الكثير من الإثارة أيضا، تقع أحداثها في نيويورك حيث يختطف أحد الصينيين فتاة شقراء جميلة ذات عيون زرقاء، معتقدا أنها بلا أخلاق كما يظن الناس غيره ذلك أيضا، وأنها من اللاتي يقبلن التواجد مع فتيان يحتسون الخمر ويدرن حولهن، بينما هن يتمايلن بخلاعة ثم ينتهي بهن الحال في الطابق السفلي بالحي الصيني، ليضعن لا محالة وبغير رجعة بفعل تناول الأفيون أو تدخين بعض منه، هاتان القطعتان من أروع ما شاهدت وكنت قد قرأت البعض الآخر بطبيعة الحال، ففي الوقت الذي بدأت الكتابة فيه قرأت القليل لشكسبير وإبسن، ومن البداية لم أقارن قط ما أكتبه بما تقدمه مسارحنا".
ولأول مرة منذ بدأتا حديثهما مع ميلر يتوقف عن الكلام، مما أربكهما قليلا فعالجت إحداهما الموقف سريعا بسؤاله عن علاقة مسرحيته الأولي وتأثيرها علي مسرحيتيه اللاحقتين كلهم أبنائي ووفاة بائع متجول :
"بالفعل هناك علاقة قوية، فكانت أحداثها تدور حول أب لديه بعض الأعمال التجارية عام 1935، والتي تدمرت وتسببت في تمزق ابنه بين مصالح والده ومفهوم العدالة وقناعته به، ولكنها بدت ما يشبه المسرحية الهزلية، وقد أهملت هذه المرحلة من حياتي، فلم أترك أمرها يشغلني لأتخلص من مسرحيتي الأولي وأعيد صياغتها بشكل أفضل، فهي مجرد بداية لابد منها".
ثم عاجلتاه بتساؤل آخر هام عن إحدي سمات كتاباته الموضوعية الأساسية وإن كانت هيمنة علاقة الأب بالابن علي مسرحياته تمس بشكل أو بآخر علاقته بوالده :
"هذا صحيح، ومازالت، ولكني في الحقيقة اعتقد أن مسرحياتي لا تعكس بشكل مباشر علاقتي به، إنه شيء فطري في مسرحياتي، فالأب يمثل الصورة التي تجمع بين القوة وبعض من القانون الأخلاقي الذي أحيانا ما يكسره بنفسه أو يسقط فريسة له وهو ما يشكل ظلا هائلا ومؤثرا، أنا لا أتوقع من أبي ذلك علي المستوي الشخصي، والسبب أنني قادر علي الكتابة عن هذه العلاقة، وأعتقد الآن أنه بسبب قدرتي علي التخيل بكفاءة، فإن ورد في خاطري أني أكتب عن والدي ما فعلت، وعن شخصيته؛ فأبي أكثر واقعية من ويلي لومان (بطل مسرحية وفاة بائع متجول التي استوحاها من شخصية حقيقية عرفها في صغره) وأكثر نجاحا منه، وآخر رجل في العالم يمكن أن يفكر في الانتحار، وبحسب القليل الذي أعرفه عن شخصية ويلي الذي كان يعمل بائعا ومن خلال نحو أربع ساعات رأيت فيها الرجل خلال عشرين عاما أدركت أنه قليل الكلام إلي حد الخرس، ولم أسمع منه طوال هذه المدة أكثر من مائتي كلمة وكان الوحيد الذي عرفته بهذه الطبيعة عندما كنت طفلا، ولكني عرفت مثله لاحقا وتواصلت معهم، رجل يتجاوز الخطوط الواضحة والحقيقية لكل خيال، وفطنت دائما لقدر العذاب الذي يخلفه هذا الصمت لرجل لديه بعض السمات القيادية، ولكن عناده مع نفسه جعله لا يذهب بعيدا في ذلك الاتجاه وأن يصبح قائدا بالفعل، وفي الوقت ذاته هو غير قادر علي الاحتجاب، هذه التركيبة تجعله سعيدا أحيانا ويميل إلي الانتحار أحيانا أخري، ولكن أبي لم يتمكن منه هذا الإحساس قط، فهذا الهاجس يمكن أن تجده في أي بطل عندما تفكر في قصة مأساوية وشخوصها مثل لير أو هاملت أو النساء في المسرحيات الإغريقية".
أرادتا استفزاز المفكر فيه بعدما فطنتا للمناطق التي يمكن أن تثيره خاصة علاقة الماضي بالحاضر، فكان سؤالهما عما إذا وجد في الكتابات الشابة من يخلق مثل أبطال القصص المأساوية :
"كما أخبرت، ربما أنا أعمل علي طول موجي مختلف، ولكني أعتقد أنهم لا يبحثون عن الشخصية مطلقا وتوثيق الحقائق التي تخص الناس، فكل الخبرات لديهم الآن تتمحور حول وضع خطة مسبقة للعرض وتطور أحداثه، ويحاول هؤلاء الكتاب المسرحيون تمكين الشخصيات من الهروب من لحظة مخطط لها مسبقا لجعل العالم مروعا، ويشبه كثيرا مسرحيات الإضراب التي تعتمد علي شخص ما لديه إيديولوجية برجوازية ومساحة من الخبرة للتعاطي مع هذه الحركة سواء كانت إضرابا بالفعل، أو أكبر من ذلك وأقرب لانهيار الرأسمالية مثلا، لتنتهي بموضع جديد يضعه ومعه المتابعون له وجها لوجه مع هذا الانهيار، تبدأ الشخصية بدون تنوير أو بعد ثقافي، وربما تنتهي ببعض منه، ويمكن التنبؤ بها في الخمس دقائق الأولي من المسرحية، وعدد قليل جدا من المسرحيات يمكن أن يذهب لأبعد من ذلك لأنهم في اللامعقول الآن، وقد رأيت أنه علي مر السنين شئ مماثل قد يحدث مع ما يسمي المسرح العبثي، أمر متوقع.
ولكن البطل التراجيدي لا يغيب، بل حاضر في المخطط للتضحية به ضمن أي أشياء أخري تتعلق باعتبارات دينية، وأنا اعتقد دائما أن هذا البطل يظهر ليلقي ضوءا حادا علي مخطط آخر مخفي أو حجة واهية لكسر قواعد مستعصية يصعب التغلب عليها مثلما يأتي أوديب بالمحرمات (وبالتالي يثبت وجودها)، أو إثبات أنه مازال هناك عالم أخلاقي ولو علي حساب حياته الخاصة، وربما وسط كل هذا اللغط يتحقق النصر المنشود ونحن في حاجة ماسة إليه.
نحن نحتاج لجريمته أيضا وهي حضارية في المقام الأول تعطي قدرا من العزاء؛ علي الرغم من أنه لا دليل علي هذه الجريمة التي التصقت ببطل المأساة أو أنها وقعت من الأساس ولكنها مبرر كاف لارتكاب بعض الناس لجرائم أكبر في حق غيرهم، وعادة ما يكون هذا البطل المضحي به أكثر صدقا من الآخرين، ولا توجد أي نهاية مجتمعية مؤكدة واضحة ككل، أو أي نوع من التواصل لتحقيق متطلبات حتي طفل صغير، والأفضل أنه يبدو أكثر ذكاء رغم كل هذا العبث".
وتدخلتا مجددا لتعديل المسار قليلا والذهاب مباشرة تجاه ما يمكن أن ينصف هذه النصوص والمسرحيات قليلا إن أدت دورها في نشر الوعي :
"إنه أمر معلوم لديهم ولكنه غير منشود وغير معترف به، وهناك شيء آخر مفقود يتمثل في علاقة الكاتب بالسلطة، وأنا أفترض دائما أن مكنون أي قصة يتمحور حول تساؤل "من يجب أن يمارس السلطة؟"، ففي مسرحية وفاة بائع متجول ستجد وجهتي نظر تعرضان ما يمكن أن يحدث، لو أخذنا بوجهة نظر "ويلي" تجاه العالم أو اتخذنا وجهة نظر "بيف" (ابن ويلي وعلي خلاف معه) بدلا منها، ويمثلان بنظرة جادة حقيقية سياسية، فأنا حقيقة أناقش الطريقة التي يجب علي العالم إتباعها نفسيا وروحيا أيضا، ووجدتها مجسدة بمثالية في مسرحية "قطة علي صفيح ساخن" لتينسي ويليامز الذي عادة لا ترتبط مسرحياته بهذه الإشكالية نوعا ما، ولقد أذهلني بشدة وضع سلطة الأب الكبيرة والمطلقة علي المحك والتعامل معها، فهو المالك بمعني الكلمة، إمبراطور لديه أراض ومزارع شاسعة ويرغب بشدة في تخليد تلك السلطة بأن يسلمها لابنه بعد أن أوشك علي الموت، بينما الابن لديه تقدير أكثر لمعاني العدالة والعلاقات الإنسانية من أبيه، فالأب خشن في التعامل، أقل ثقافة، فظ عندما يتحدث عن المشاعر، يبدو لنا أنه يفتقر لها من الأساس، بينما نجدها واضحة لدي الابن، تلك هي الرؤية التي تفتقت لدي عندما شاهدت هذه المسرحية، إنه أمر رائع أن تجد شخصا لديه هذا القدر من الحساسية في التعامل مع السلطة وماذا سيفعل حيالها؟، ولكنه لم يصل أو يحصل علي إجابة واضحة وقطعية ليعكس حالة الاضطراب العصبي الغالبة، وصولا إلي طريق مسدود، وإن كنت تتحدث عن المأساة؛ فالإغريق قاموا بشيء خارق مع هذه الفكرة؛ عندما جعلوا الابن يعلق بالسلطة ليواجه الانعكاسات المرهقة لرجل له حساسية في التعاطي مع القانون والقواعد الصارمة، ومن ثم يلقون الضوء علي طبيعة المأساة مع السلطة ذاتها".
وجدتا في إسهابه عن المأساة التي يؤمن بها، وعلاقتها بأعماله وكتابات غيره القديم منها والحديث مادة ثرية وعميقة، فواصلتا في ذات الاتجاه، وأخذتاه للحديث عن مأساته في مسرحيته حادثة في فيجي :
"هذه النوعية من المأساة (يقصد الإغريقية) هي بالضبط ما كانت تشغلني عندما كنت أكتب هذه المسرحية وما بعدها، ولكني شعرت أن المسرح هذه الأيام تحول بعيدا عن أي اعتبارات للسلطة التي تقع دائما في قلب المأساة، ومسرحية ويليامز التي تحدثت عنها تعد مثالا ممتازا لهذه الإشكالية أيضا وصولا إلي الكذب والخداع علي النفس في رصد العلاقات الإنسانية، ورغم أنها تبدو أقرب للشخصنة ومقصود بها أشخاص بعينهم، ولكن الإشكالية في حقيقتها أبعد من ذلك وصولا إلي نوع آخر من الرياء وهو الكذب في العلاقات الاجتماعية، فأنا مازلت أؤمن أن التساؤلات في المسرحية عندما تهدد منظومتنا الاجتماعية فهي تهزنا بشكل عميق وخطير، وهو نتاج عظيم ولكنه غير كاف".
استمتعتا بهذا التعمق ولكنه أخافهما، فإن كان بعض المسرحيين لا يدركون ذلك، فماذا عن استعياب الناس لهذا الفكر المتشابك ؟
"أتساءل أحيانا إذا لم يكن كذلك؛ أنهم بالفعل لا يستوعبون، فأنا أتحدث الآن لجميع أفراد الشعب الذين يحتاجون إلي قدر من المرونة أو سنعجز كليا عن مواجهة القرارات الصعبة والنتائج المروعة لأخطائنا، وأنا أقول هذا في الوقت الذي أحدث فيه عرض "وفاة بائع متجول" مؤخرا قدرا بسيطا من التهديد، حاليا هناك الكثير من الناس في الأربعينيات من العمر، ولكنهم عندما يفتحون أعينهم لن يشعروا بالطريقة نفسها، فالمرء في حاجة لقدر معين من الثقة لمشاهدة مأساة، فإن كنت توشك أن تموت فلن تذهب لرؤية مسرحية، واعتقد أن الأمريكان كذلك لديهم الخوف الفطري من السقوط تماما عندما تحصل علي رخصة قيادة في عمر متأخر".
وذهبتا معه في ذات السياق، ولاحقتاه بتساؤل عن تصوره للأوروبيين ومدي إدراكهم لمثل تلك المأساة :
"قدمت وفاة بائع متجول في باريس في سبتمبر الماضي مرة أخري بعد عرضها الأول بعشر سنوات و جاء تأثيرها ضعيفا للغاية، ولم يكن الإنتاج جيدا، وأنا أتفهم ذلك، ولكنهم فجأة بعد كل هذه السنوات اكتشفوا هذه المسرحية وشعرت أن ردة فعلهم كردة فعل الأمريكان تماما، والأكثر إثارة أنها أتت بنفس ردة الفعل عند الروس حيث قدمت هناك عدة مرات".
أطلت النزعة الأمريكية لديهما، خاصة في ظل الحرب الباردة المتقدة ولهذا توقفتا عند الروس ورؤيته لهم في ظل اتهامه بالشيوعية :
"أولا وقبل كل شيء، فإن البساطة سمة رائعة فيهم، وهم ليسوا مملين حتي الموت كما يصورهم البعض، ولا يخرجون للرقص تحت المطر كذلك، ولكنهم يبحثون دائما عن شيء أفضل يقومون به، والذهاب للمسرح له قيمة كبيرة عندهم حيث يأتون لرؤية شيء سيغير حياتهم، صحيح أن تسعين في المائة من الوقت لا يوجد شيء يمكن لمثلي أن يفعله هناك، ولكنهم منفتحون يبحثون عن كل السبل التي تأخذهم لتجربة كبري نتاجها عظيم، وهذه ليست الطريقة التي نفكر بها في المسرح ونذهب إليه من أجلها ".
يبدو أن ما قاله عن الروس أقنعهما من واقع خبرتهما الشخصية فطالبتاه بالمزيد وأن يحدثهما عن مسرحياتهم :
"اعتقد أنهم يقومون بما هو مثير وبارع علي الخشبة، ولديهم ممثلون مدهشون ولكن ما يقدمونه من دراما لا يتسم بالجراءة والمغامرة الكافية، وجميعها تتبع المذهب الطبيعي في الأساس ورغم هذا فهي ليست واقعية، وهم يعارضون وبعنف مسرح العبث واللامعقول، ففي رأيهم أنه يتسبب في تفتيت المجتمع وجعل الأفراد يتبعون طرقا ملتوية ليهربوا من أي التزام متبادل مع كل شيء حولهم، وأنا أُؤيدهم في بعض من تخوفاتهم في هذا الشأن، وبطبيعة الحال فإن هذه الأمور واردة ويمكن لأي شخص آخر أن يدحض هذا الرأي بفكره، وأنا علي علم بهذا الفكر الذي تأثرت به بشدة حين تعاملت مع الطرق التعبيرية الألمانية عندما كنت في المدرسة ولكني أجد شيئا شاذا فيه، فنهاية الرجل تعني لا بشر بعد، وإنما الصحيح في النسيج الألماني أن النهاية المريرة للعالم أن يفقد الرجل صوته، وبريخت كمثال لديه الكثير من هذا الفكر، ولكنه أكثر من شاعر أسير لهذا الفكر، وفي الوقت نفسه تعلمت الكثير منه وانصهرت العديد من رؤاه في فكري وبدا الكثير منها في وفاة بائع متجول، ومثال علي ذلك؛ لم يكن لبيف بالنسبة لي أي وجود من الناحية البنائية لأنه لم يكن شخصية يعتد بها عند ويلي وغير مؤثرة نفسيا وتعبيريا، ولأن كثيرا من الذكريات يمكن استعادتها من خلال إيماءة بسيطة تشير إليها، ثم يتجسد في شخص ما يمثل تهديدا أو وعدا بشيء مرغوب فيه".
كان للمدرسة التعبيرية تأثير كبير في أوروبا شرقا وغربا، ووجدت لها مجالا فسيحا في الأراضي الفرنسية، خاصة المسرح الوطني الشعبي الفرنسي الذي اعتاد ميلر أن يذهب إليه في زياراته لباريس، فسألتاه عنه :
"أتذكر أني شاهدت مسرحية هزلية خيالية لكورنيه وكانت من أكثر ما شاهدت إثارة، لم أكن أتوقع أن أستمتع بها، لغتي الفرنسية لم تكن جيدة، وكنت بالكاد أتعافي من مرض ألم بي وعلي وشك أن أغادر فرنسا وأردت أن أري ما يفعلونه في مسارحهم، فوجدت قطعة مدهشة رغم أنها من أقل أعمال كورنيه، والتي تدور حول ساحر اختطف بعض الناس وأخذهم إلي العالم السفلي، في مزيج بين التهكم والكوميديا البذيئة، والذي اعتمد فيه علي النمط الوصفي والأداء التمثيلي البسيط، محاولة للخروج عن هذا العالم الذي نعيش فيه، ويملؤه الضجيج، وبطبيعة الحال كان الجزء الأفضل هو ما يتعلق بالجمهور، فجميعهم أعمارهم أقل من الثلاثين أو هكذا بدا لي وعددهم قليل نسبيا في مكان يتسع لألفين وخمسمائة أو ثلاثة آلاف مقعد، وحيويتهم الواضحة منحت الممثلين الفرصة أن يلتقطوا أنفاسهم جيدا ويؤدوا بهذه اللغة الجميلة، وهي في حد ذاتها مفرحة في هذه الخشبة الفسيحة مع التحدث بهدوء تشعر معه أن أصواتهم تفوح في أرجاء المكان".
منحتهما حماسة ميلر وإقباله علي الحديث بحرية الفرصة أن يدفعاه إلي منطقة شائكة، أو هكذا اعتقدتا عندما تساءلتا عن الفرق بين النموذجين الفرنسي والأمريكي في التعامل مع المأساة :
"حسنا، هناك ظاهرة تستحق دراسة سوسيولوجية، فكنت قد انتهيت من كتابة قرابة ثلثي مسرحية "بعد السقوط"، وعرض علي تقديمها في افتتاح "مركز لينكولن للإحياء المسرحي" المتخصص في تقديم المأساة بشكل أساسي، ولسبب أو لآخر وافقت علي ذلك، وكنت أتوقع أن يخسر ماليا، وكل أملي أن يربح 20٪ مما يحققه أي عرض في الظروف العادية وأن الناس سيقولون إنه عمل أحمق وغبي، ولكن ما حدث كان مختلفا كليا واتضح لي أن الأمر تكرر مع تراجيديات أخري، ربما لأن الممثلون يحاولون تطوير أدواتهم وليس هناك مكان أفضل من شركة لإحياء العروض المسرحية، حيث تؤدي أجزاء وأدوارا مختلفة، وتمنحك فرصا لن تجدها في حياتك في مسارح برودواي لكن بعض الممثلين يشعرون بالإهانة من جراء النظرة الدونية تجاههم، أنا لم أعتد ذلك، لكني أتفهم عداوة المنتجين التجاريين لمثل هذه الشركة وشعورهم بالتعرض لتهديد، ولكن لماذا يتقبله خبراء المهنة إن كان مهينا لهم، الاستنتاج الوحيد الذي أراه أن الممثل مهدد الآن بالإطاحة به أو الصمت؛ ستكون لديه فرصة دائما لأن يتجول في برودواي مع الظروف المروعة التي يمر بها ويردد لنفسه "أنا ممثل كبير ولكني غير قادر" وفي عقله الباطن يتردد "حسنا، يوما ما سأحصل علي دور البطولة، بل وسأذهب إلي هوليوود والثراء"، هذا أقصي ما هو متاح أن وقعت مع شركة إحياء مسرحي، لهذا الغالبية قليلة الخبرة ينبذون هذه الفكرة بحثا عن النجاح السريع ولا يريد أن يواجه التهديد في أي مرحلة، إنه نوع من الاغتراب العميق الذي يواجه الفنانين إن حاولوا خلق منظومة لا تعتمد علي التجارة وتحتاج إلي رعاية، ومباشرة ستجد الناس ضدها، اعتقد أن هذه الجوانب مثيرة للاهتمام، أضف إلي ذلك أنني تحدثت مؤخرا مع مجموعة المسرحيين الشباب كنوع من طرق مختلف الأبواب وطالبتهم بقراءة مسرحيتي، ولكن دون جدوي، فكل مسرحي يقرع الباب بغضب ويريد المسرح الذي يعتقد أنه صحيح من وجهة نظره ونحن نفعل ذلك لأننا نفتقد للعمل الجماعي، لهذا فكرنا في عمل مسرح للمجموعة كمشروع عام وإلا فلن نحقق شيئا علي الإطلاق، واعتقد أن جميع من يشكلون مسرح لينكولن مديرون سواء كان ميلر وكازان أو غيرهما وبطبيعة الحال يمكن لمشروعنا أن يفشل، فكما ذكر لورانس أوليفييه فأي مشروع سيحتاج إلي سنوات حتي يحقق شيئا سواء كانت البداية مشجعة أم لا، ولكن من الناس من يري هذا سخيفا، إلا أن المجتمع الفني إجمالا في صالح هذا المشروع".
لمستا منذ البداية علاقة ميلر الوثيقة بالمأساة، وتأكدتا من ذلك مع تمحور حديثه حولها فأخذتاه لتأثيرها في الأفلام السينمائية :
"حسنا، في الأفلام يبدو الأمر غريبا ومنظما بشكل أفضل لأن الكاميرا يمكن أن تأتي من يمين الممثل إلي يساره وتقترب منه وتجعل لغة التواصل أفضل ما يمكن من نظرة العين إلي رسمة الابتسامة علي الوجه وغيرها مما لن تحققه الخشبة، فالمسرح وبعد كل شيء وسيلة لفظية، يعطيك العديد من الإيماءات يدركها من يذهب إليه وهو يقصدها، بعبارة أخري عليك أن تكون غير طبيعي وتنقل هذا للجمهور تلك هي وظيفتي، بينما في الفيلم السينمائي لا تفعل ذلك ومن السيئ فيه أن به الكثير من التصنع ولكنهم يحاولون تحسين ذلك بأفلام فيها جرعات تمثيل بأساليب خاصة مناسبة".
أعادتاه إلي حيث يفضل بتساؤل أدهشه عما إذا كانت أساليب التمثيل الخاصة بالأفلام يمكن أن تفيد المسرح :
"حسنا، إنها مثل مزج المسرحيات التشيخوفية بتقنيات ستانسلافسكي مما يؤدي إلي تحريف المسرح عن مساره، فتشيخوف يمحو التكلف في التمثيل من ممثليه بدمجهم في الكتابة حيث يكتب كل منهم عن حياته الخاصة كجزء من نسيج النص المسرحي، بينما تقنية ستانسلافسكي تعتمد علي تحفيز الممثل لتنبع كل حركة من داخله وهذا ما ينبغي أن يكون عليه التمثيل، وهكذا فعندما نزيل عنصرا حيويا من الممثل في المجتمع ونجعله مجرد شخصية لتجسيد الأمراض النفسية علي المسرح ظنا أن ذلك يزيده عمقا لا يعرف هو أو غيره عنه شيئا، فهذا هو التحريف".
وفي المقابل أدهشهما رده، فعقبتا بحجة، وطالبتاه بتوضيح عن سر نجاح مزيج مسرحية مارا ساد لبيتر فايس :
"حسنا، لهذه المسرحية وضع خاص في إنتاجها وإخراجها، فظل بيتر بروك يحاول لسنوات، لاسيما من خلال تقديمه لأعمال شكسبير؛ لخلق جسر يربط فيه التمثيل النفسي والمسرح، وبين شخصيته والمظاهر العامة، و"مارا ساد" خطبة ونموذج لفن الإلقاء أكثر منه مسرحية، والشخصيات به في الأساس علاقات موضوعية بديلة للكيانات البشرية، لهذا حل الأسلوب التجسيدي بديلا للوصفي".
لم يتجل لهما بعد علاقة السينما والخشبة عنده فتساءلتا عن تأثير تعامله مع الأفلام علي كتابته المسرحية :
"بالتأكيد تغير شكل الكتابة المسرحية بفعل تعاملي مع أفلام السينما، فأخذت منها تقنيات معينة مثل القفز من مكان لآخر، وعلي الرغم من أن هذه التقنية قديمة واستخدمها شكسبير من قبل، ولكنها لم تصلني منه ولكن من الأفلام، وكذلك الاختصار اللفظي ورؤية الحياة عبر حلم، وغيرها".
أصبح واضحا لهما أن مكانة المسرح بالنسبة لميلر ككاتب أعلي بكثير من السينما، فوجدتا أنه من الضروري سؤاله عن أهمية الكتابة في الأفلام من عدمه :
"من الصعب أن تتذكر الحوار علي الشاشة الكبيرة، فما بالك إذا كانت دولية ولا يمكنك فهم الحوار الذي تسمعه في فيلم إيطالي أو فرنسي، وبالتالي نحن نراقب الفيلم بالعين وليس الأذن أو الكلمة، في حين أن مخرج المسرحية يركز علي الكلمات التي يمكن تفسيرها بطريقتين أو ثلاث علي الأكثر، بينما طرق التفسير علي الشاشة عددها لا حصر له، بإخراج شخصية خارج الصورة ثم إدخالها مرة أخري أو بتبادل إطلاق النار من مكان لا نري حتي فيه وجهي الشخصين ويمكن لأحدهما التحدث للآخر خلال الحدث والتركيز علي ردة فعل المخاطب وغيرها".
وانتقلتا به من السينما إلي التليفزيون ذلك الوليد الجديد كوسيلة للدراما والذي أثار الكثيرين وقتها فقال :
"لا أعتقد أن هناك أي وسيلة يمكن أن تقترب من المسرح، فمجرد وجود شخص حي من لحم ودم أمام المتفرجين دائما وأبدا أقوي من صورته، ولا يوجد ما يجعل من التليفزيون وسيلة رائعة، فالمشكلة الرئيسية أن الجماهير يشاهدون التليفزيون دائما منفصلين، وشعوري أن الناس يتفاعلون بشكل مختلف عند المشاهدة الجماعية وربما بشكل أعمق مما عليه عندما يكونون وحدهم في غرف معيشتهم وتلك عقبة يصعب تجاوزها، وببساطة إذا كان من الصعب الحصول علي الأفلام الجيدة فمن الصعب الحصول علي روايات جيدة ومن الصعب الحصول علي شعر جيد أيضا وبالتالي فمن المستحيل الحصول علي تليفزيون جيد؛ لأنه بالإضافة إلي هذه الصعوبات هناك أيضا سيطرة الشركات الكبري علي هذه الوسيلة، فقد استغرق التليفزيون سبعة عشر عاما لتقديم وفاة بائع متجول هنا، ولعرضها علي شاشة التليفزيون مرة واحدة في عدد من دول العالم، ولكنه هام جدا في عالم الأعمال ومحبط في مضمونه".
واستكمالا لأشكال الدراما التي كتب فيها ميلر وأجاد، تحدث عن تجربته مع الكتابة الإذاعية :
"أمامك ثمان وعشرون دقيقة ونصف لمعالجة قصة بأكملها في مسرحية إذاعية، وعليك أن تركز علي الكلمات لأن الجمهور لا يري أي شيء فنحن ننفذ المسرحية في حجرة مظلمة ولهذا علينا أيضا الاقتصاد في الكلمات لتكون المسرحية الإذاعية جيدة، والمزيد والمزيد من الجهد لتكون قوية ومحكمة بتعبيرات صحيحة ولكن التجربة لم تدم طويلا ولم تتمكن الحركة الشعرية المعاصرة من الاستفادة منها، فهي وسيلة طبيعية للشعراء، صوت نقي، كلام دقيق، كلمات ثم صمت، وسيلة رائعة بها فكر كثيف، وحتي وقت قريب كنت أود أن أكتب مسرحية إذاعية أخري، والإنجليز مازالوا يقدمون المسرح الإذاعي بشكل جيد جدا".
وظنتا أنهما ستفاجئانه بتساؤل عن رأيه في المسرحيات الهزلية، ومكانتها بين الأنواع الأخري :
"غالبا ما أكتب هزليا ثم أعدل عنه، كتبت وفاة بائع متجول والبوتقة هزليا في البداية ثم عدلت عن ذلك، كنت أخشي من موقف الممثلين تجاهها والذي من الممكن أن يؤثر علي حيويتها، فنحن ليس لدينا تاريخ جيد مع العروض الكوميدية، فعندما يري الممثل الأمريكي نصا مطبوعا يشبه الهزلي تجده يضع قدما أمام الأخري ويتمتم دون أن تسمع ما يقول، ولا تفهم ماذا يقصد، ويعتقد أنه بهذا يتبع الأسلوب الصحيح لصنع الكوميديا".
ويبدو أن هناك تفاصيل وملامح في شخصية ميلر لم تتضح لهما بعد لهذا طالبتاه بالتحدث عن المسرحية الأقرب إليه من أعماله :
"لا أعرف إن كنت أشعر بأن واحدة أقرب لي عن الأخري، أفترض أن "البوتقة" نوعا ما، ففيها الكثير مني علي ما أظن وربما كنت أنانيا بأن ذهبت فيها إلي مناطق عميقة تخصني دون سواي".
استفزهما رده المقتضب وصمته بعدها ففرضتا عليه جوابا بتعجبهما أنها أقرب إليه أكثر من مسرحية "بعد السقوط" :
"بالطبع، فرغم أن البعد النفسي في "بعد السقوط" أكثر عمقا ولكنها أقل تطورا، ففي البوتقة أنا أشعر بالزمن المسرحي كليا وكذلك الزمن الذي أكتب عنه الذي يعود لأكثر من ثلاثة قرون مضت حيث أسلوب وزمن مختلف وكنت سعيدا للغاية وأنا أكتبها أكثر من أي مسرحية أخري كتبتها، وتعلمت كيف كان يشعر الكُتاب من قبل عندما كانوا يتعاملون مع المواد التاريخية، ويمكن لكاتب الدراما التاريخية أن ينتهي من عمل يوم الاثنين ويبدأ في آخر الأربعاء التالي له وهكذا، لأن القصص معدة وجاهزة بالنسبة له، فإيجاد القصة يتطلب الكثير من الوقت وربما يستغرق عاما أو أكثر؛ والكاتب المسرحي التاريخي في غني عن ذلك فيما عدا التسلح بلغة صحيحة وتوصيف دقيق، وهناك أيضا مشكلة التكثيف التاريخي وإجراء الكثير من التعديلات وجلب شخصيات خيالية لم تعش أبدا في هذا الزمن، وأخري لقيت حتفها قبلها بمائة عام وأكثر، ولكن طالما كانت القصة لديك فستوفر لك الكثير من الوقت".
وعادتا لتوجيهه بسلاسة دون التأثير علي تسلسل أفكاره باستفسارهما عن الشخصية التاريخية المغرية له :
"إنها تحتاج إلي قراءات متعمقة في علم النفس وكل جديد فيه، وكذلك الطب النفسي، كما تحتاج لمستوي مرتفع من الإلمام الأدبي حتي يصبح لدي الكاتب حد أدني من الرؤية لما نحن فيه حاليا، وليكن الحاضر بوصلته ثم الابتعاد تاريخيا وصولا إلي الحقبة التي سيتناولها لاختيار نقطة بداية زمنية ومكانية، ويفضل أن تكون نقطة فاصلة تحدث خلالها أو بعدها تغيرات مؤثرة ومفاجئة".
وإيماءة بسيطة منهما حتي لا يشردا عنه ذهنيا، ليتحدث عن أهمية علم النفس في الكتابة الدرامية من وجهة نظره :
"يساعد الناس علي إدراك وضعهم بدلا من محاولة الانفصال عنه أو اختزاله، أي تدرك حقيقة شخصيتك وما يجعلها تفعل شيئا وتمتنع عن غيره".
هذا التفسير وتعبيراته أوحت لهما بتساؤل عن الأنانية والفردية في المجتمع الأمريكي، الصفتين اللتين سبق أن تناولهما في كتاباته من قبل :
"أصبحا أقوي وأشد بكثير اليوم مما كانا عليه عندما كتبت وفاة بائع متجول وبات الأمر أقرب للجنون، الآن لا يمكن وضع وجهة نظر محددة عن كل هذا الجنون وأشكاله المتعددة والمتجددة كل يوم".
ذهبتا تستشهدان بأحد أعماله لكسب مزيد من التوضيح بافتراض أن الفتاة في مسرحية "بعد السقوط" رمز لهذا الهوس :
"بالطبع، إنها تنفق كل ما تجنيه بدلا من أن يكون عملها وسيلة لتحررها، يتملكها ويأسرها، وتصبح حبيسة في سجنه، ويتحول النجاح في العمل من منفذ لنيل فرصة حرية الاختيار إلي أسلوب حياة، فلا يوجد بلد يجلس فيه الناس مع بعضهم في غرفة الجلوس ويسألك أحدهم "ماذا تفعل؟؟" إلا في أمريكا، حيث يطرح عليّ هذا السؤال كثيرا، ثم أدركت أنه من الأفضل لي ألا أعرف إجابة هذا السؤال، ولفترة من الوقت ذهبت أفكر في شخص ما دون معرفة ماذا يفعل؟؟، ومدي نجاحه أو فشله، نحن للأسف نقيم الجميع ونقسمهم لفئات في كل دقيقة يوميا بحسب ما يجنون من مال".
وأنهتا هذا المنعطف الحواري بتساؤل عن إمكانية أن يكتب مستقبلا عن هذا الهوس الأمريكي وجنونه مرة أخري :
"ربما أكتب، ولكن كما تريان فالنجاح هو في حد ذاته مصدر الهجو والانتقاد اللاذع، مما يجعل الكتابة عنه صعبة للغاية، فلا يمكنك أن تقنع أناسا فقدوا روح الشعب والجماعة فيهم، وينكرون ذلك، وتناول هذا الهوس من منظور آخر صعب جدا".
لم تفوتا الفرصة لاستكمال كل التفاصيل الممكنة، ولهذا انتقلتا من مسرحياته إلي قصصه القصيرة، وأن يحدثهما عن قصة "النبوءة" :
"حسنا، هذه القصة كتبتها تحت عباءة الخمسينيات، ولكني اعتقد أن هناك تسييسا للأوضاع في السنوات الأربع أو الخمس الماضية، فلم تعد الأمور بغباء الماضي ومشاكل المجتمع من ظلم ومشاكل عرقية وإن تبقي من الأخيرة القليل، والآن وبعد أن تلاشي التحيز وتحرر الزنوج منه؛ ونشكر الله علي ذلك، دخلنا في حقبة العلاقات الشخصية والتي يجري بناؤها بشكل جيد، مما يسمح بقدر من الحراك السياسي بين الشباب، وهو ما يتطلب قدرا من الجهد المخلص أيضا دون الغطرسة ولكن هذا لا يتحقق لأن كلا منهم لا يأخذ دوره في هذا العمل، ويصبح هذا الحراك إما غير مجد أو لخدمة مصالح شخصية في غياب الضمير، ولكن التركيز علي العلاقات الشخصية بشكل مكثف ربما يحقق شيئا من الوعي السياسي، لكنه لن يفيد كثيرا، بالغت قليلا في تصوراتي، ولكن الحياة مستمرة ولم نصل للنهاية بعد".
واستطلعتا جانبا آخر فيه مهما للغاية ولا يمكن أن يغيب عنهما، ولا تناقشان شخصا مثل ميلر فيه، ألا وهو تأثير السياسة عليه :
"أنا أجد الكثير من الإلهام في السياسة دائما، فهي تمثل بشكل أو بآخر نوعا من النضال الوطني، فأنت تعيش في العالم، ورغم التصويت مرة واحدة ولكنها لحظة تجدد فيك بعضا من مكنونات شخصيتك، فقد عشت خلال زمن الماركسية ورأيت بعيني أناساً يتحولون ويتغيرون، ونتيجة ذلك واضحون ومؤثرون بشكل مباشر في الوضع السياسي ولو استمر لتحللت الشخصية الأمريكية وأصبحت اسوأ مما عليه حاليا، ولكن الحراك الأمريكي استبدل الخوف بجنون العظمة الذي ينمو بشكل مَرضي".
استشعرتا قرب النهاية، فذهبتا تطرحان عليه كل ما يطرأ علي بالهما، ومنه ضعف تأثير المسرح في الحياة العامة :
"لقد فقدنا تقنية وحرفية التصارع مع العالم مثل التي كانت لدي هوميروس، إسخيلوس، يوربيدس وحتي شكسبير، وكم كان مذهلا أن الناس كانوا يعبدون الدراما اليونانية، ولكنهم لم يكونوا يرونها أعمالا عظيمة بقدر ما كانت أعمال رجل يواجه المجتمع وأوهامه و دياناته، وكأنها وثائق اجتماعية وليست مجموعة محادثات خاصة، نحن تعلمنا أن نفكر في هذا القصص كأسطورة في حد ذاتها".
واستفسار وجدته إحداهما ضروريا وملحا في هذا التوقيت عن إمكانية العودة إلي الدراما الاجتماعية :
"أعتقد أن هذا سيحدث لو أن المسرح يود أن يبقي علي قيد الحياة، انظرا لموليير، لا يمكننا تصوره إلا ككاتب وناقد اجتماعي منغمس من رأسه حتي أخمص قدميه فيما يجري حوله".
واستفسار آخر استجد من إشارته الأخيرة عن إمكانية عودة الأنماط المتزمتة التي كان يستخدمها موليير :
"لا أعتقد أن أحدا يمكنه تكرار الأنماط القديمة علي هذا النحو، لأن كتابها يعبرون عن لحظة زمنية أكثر كثافة، فأنا لا يمكنني أن أكتب مسرحية وفاة بائع متجول أو أيا من مسرحياتي الأخري الآن، كل شيء مختلف، فعامان فقط يمثلان فارقا كبيرا في الفضاء المسرحي والإنساني لأن لكل لحظة مفردات وتنظيما مختلفا، ولكن عندما تتحدث عن الأنماط المتزمتة، فأنا أؤمن بها في المسرح في كل وقت، وإلا انتهي بك الأمر أمام بعض الحكايات وليس مسرحيات، وفي رأيي نحن حاليا في عصر الحكايات ،ولكنه مهتز وغير مستقر، ويمكن أن يحدث الارتداد في أي لحظة، فالجمهور تدرب علي تجنب أي ذروة منظمة لأنها مبتذلة أو لأنه يخالف الفوضي التي اعتادها، ونحن نحترم ذلك، ولكن اعتقد أن كل هذا سيختفي مع أول مسرحية من نوع جديد وستدفع الجماهير عن مقاعدهم مع ذروة عميقة نظمت بشكل مكثف، لا يمكن أن تأتي إلا من شكل متزمت، ولا يمكن الحصول عليه إلا تتويجا لساعتين من التطور دون اللجوء لرفع صوتك والصراخ فجأة".
وبخبراتهما الكبيرة أرادتا اكتشاف انعكاس هذا التطور في الأشكال والموضوعات علي كتاباته :
"لقد مضيت قدما، للأمام والخلف، وأتمني أن تفوق خطواتي للأمام نظيرتها للخلف، فقبل أن أكتب أول مسرحية ناجحة، كتبت أربعة عشر أو خمسة عشر مسرحية طويلة أخري ونحو ثلاثين مسرحية للإذاعة وأغلبها غير واقعية، مجازية ورمزية، بعضها هزلي وفي واحدة منها التي كتبتها عن مونتيزوما وتحولت فيها للتراجيديا التاريخية والهزلية جزئيا، بعيدا عن النموذج الإليزابيثي، ثم بدأت أعرف الواقعية وبدا تأثري بها في مسرحية واحدة، حيث حاولت أن أبلغ قدرا من واقعية إبسن التي تشبه إلي حد كبير مسرحيته "كلهم أبنائي"، وحاولت الذهاب في نفس الاتجاه في جميع مسرحياتي مثل بائع متجول المركبة من التعبيرية والواقعية، وكذلك نظرة من فوق الجسر وهي واقعية نوعا ما، وإن جاءت مفككة ولكنها بدت أكثر واقعية من غيرها، هذا هو انطباعي عن أعمالي، فأنا أحاول تشكيل صورة مجمعة من مجموعة قطع صغيرة للغاية في مشهد واحد متماسك".
واستطلعتا رأيه حول اعتبار النقاد المعاصرين أن المسرح جزء من الأدب وليس فنا مستقلا :
"بالفعل هم يعتقدون كذلك، فلسنوات اعتمد النقد المسرحي في المقام الأول علي المراسلين الذين ليس لديهم أي خلفية عن النظريات الجمالية الخاصة بالدراما، فيما عدا بعض الطرق البدائية، ويقابلهم من زاوية أخري أساتذة الجامعة الذين لا علاقة لهم علي الإطلاق بالنقد الصحفي، ويقيمون الدراما وفق معايير أكاديمية للمأساة والملهاة وغيرها، وغالبا ما تأتي قراءة المراسلين بسيطة وساذجة خاصة إذا مال بمشاعره لمسرحية جيدة ولم يعد أي شيئا آخر مؤثرا، ولا يمكنك أن تدرك المستوي الفكري للعرض وإن كان يستحق الاهتمام أم لا، وإن كانت المسرحية ذات قدر من الحساسية؛ فيمكن لهذه الطريقة من التناول النقدي أن تدمرها، ولكنها تمنحك بعض المعلومات البسيطة عن المسرحية، وإن كانت ستضحكك أو تبكيك أو أيا كانت ردة الفعل تجاهها، ورويدا حل النقاد الأكاديميون محل النقاد المراسلين، وبكل صراحة أنا أقضي ثلثي الوقت لا أعرف ما يشعرون به تجاه المسرحية حقا، وإن بدا أن المسرح متطفل علي الأدب، ولكن المسرح كمكان يذهب إليه الناس لاكتساب خبرة جديدة، وإن عاجلا أو آجلا سينجح في جذب الجميع وسيأتيه من يحب أن يمثل أو يكتب، وبالتالي سيكسب الجمهور والنقاد معا".
واستثمرتا حديثه عن دور النقاد في العملية المسرحية ككل، لتستفسرا عن تأثيرهم في كتاب المسرح :
"كل شيء يؤثر في كتاب المسرح، والكاتب المسرحي الذي لا يتأثر بأي شيء بمثابة ورقة عباد الشمس للفنون، وهذا هو المراد المستحيل، لأنه إن كان لا يعمل علي ذات الموجة مع الجماهير، فلا أحد سيعرف عن أي جحيم يتحدث، إنه نوع من الصحافة النفسية، عندما تتحقق فإن الأجواء التي سيحدثها في مجملها أهم كثيرا من الفن نفسه في أي مكان".
ومقولة أخري طرحتاها عليه لمعرفة وجهة نظره فيها ومفادها أن نجاح مسرحية معاصرة يعني أن القديم عفا عليه الزمن :
"شيء مثير للسخرية، فلا مزيد من النجاح الملحوظ لتينسي ويليامز الذي عفا عليه الزمن كما حدث مع من هم قبله إذن، اسمع، هناك بعض القوانين البيولوجية في المسرح والتي لا يمكن تجاوزها، فالمسرح لا يشبه لعبة الشطرنج، فلا يمكن الاعتماد في بنائه علي شيء آخر غير جمهور كبير إذا أردت النجاح، وكلما كبر حجمه زاد النجاح، بالتالي فإن أربعة عشر ألف متفرج من الجمهور اليوناني يجلسون لمشاهدة مسرحية في آن واحد، ولا يمكن مطلقا القول إن كل هؤلاء اطلعوا علي القراءة النقدية في الصحف الأكثر انتشارا، وحتي شكسبير تحطم في زمنه لأسباب عدة من بينها تقنيات المكياج الضعيفة والهامة للميلودراما، الكوميديا الزائدة عن الحد، العنف، الكلمات القذرة، والدم، القتل؛ وعدم وجود دافع قوي لكل ذلك، ولكنه حقق النجاح بعدها بسنوات ولعدة قرون ".
حتي هذه اللحظة، تركتا له حرية الاستشهاد بمسرحيين كأمثلة عما يتناوله، ولكنهما ولمغزي لديهما سألتاه عن شعوره تجاه يوجين أونيل ككاتب مسرحي :
"لم يكن أونيل يعني لي الكثير في بداياتي خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن دوره معي كان كبيرا في الأربعينيات في فترة تشكلي النهائية، ولم يزد علي ذلك، كتب أعمالا مثل "رجل الثلج"، و"رحلة ليوم طويل في الليل"، وبعضا من الأعمال الشعبية التي لم تحقق النجاح عندما كتبها وهي مثال آخر للصحافة النفسية علي الخشبة الذي أعتمد عليه بشكل أساسي، وهذا ما يجعل الكتابة المسرحية مواجهة مهنية حيوية وقاتلة، يمكنك أن تمتلك كل شيء بهذا الشعور، فإن افتقدته ولم تفطن له في توقيته فلن يحدث شيء يستحق الذكر، هناك شيء واحد كنت دائما أحترمه في أونيل وهو إصراره علي رؤيته حتي عندما كان يلوي الأمور ليشوهها، فلديه رؤية واضحة وراء هذه النزعة الفردية سواء كان خيرا أو شريرا.
لا أعتقد أن هناك أي شيء يثير اهتمامي تقنيا، فقط فضيلة غير فنية، أسميها "الإلحاح أو التطبيل" حيث يكرر الشيء حتي يثبته ويكرره بضعا وتسعين مرة بطرق مختلفة، وفجأة تدرك أن هناك شيئا يجتاحك خلافا لما كنت تعتقده وتفهمه ومن ثم تظهر لك آفاق جديدة، ولا يهتم أنه يكرر ذلك، ويعد هذا جزءا من عدم الاكتراث نتيجة افتقاد الكاتب المسرحي للحساسية في أحيان كثيرة فهو ليس بارعا في كل شيء، فقط لديه رغبة جياشة للخشبة وفضيلة الإصرار تظهر في تمسكه بالذروة، وحتي إن كانت غير مرغوبة عند البعض، وسبب فشله في كثير من مسرحياته، حيث تبدو مشوهة؛ ولم يعد أحد يدرك كيف يمكنه التفاعل معها، شخصياته ليست رمزية، وخطوطه الرئيسية بالتأكيد ليست هزلية وليست واقعية أيضا، ورغم هذا فأعماله بشكل عام رائعة، ومسرحيته الأخيرة تحفة".
وفجأة استدارت إحداهما وذهبت به إلي جانب مختلف، وسبب كتابته لمسرحية "بعد السقوط" في هذا التوقيت :
"انظري، علي أن اعترف أن "بعد السقوط" كانت ستبدو أفضل إن تقبلوا بشكل مختلف مقتل البطل أو انتحاره بإطلاق النار علي نفسه، وتجاريا، كنت أدرك أنه وفي ذلك الوقت لا يوجد شيء مثل الموت، ومع ذلك سمعت صرخات الاستنكار من الكثيرين الذين كانوا في حياة مارلين مونرو، ويستغلونها بلا رحمة بعد موتها أو يسخرون منها بشراسة ويرفضون قبول أي ذرائع أدت بها لذلك علي محمل الجد، ولهذا كان من المستحيل أن آمن لحدثهم، فاعتمدت علي حدثي في تحديد التوقيت وخاطرت".
واستخدمت الأخري حقها في مفاجأته، وسألته عن رأيه في أن البعض لا يقبل التنازلات في الدراما :
"ذكر "غونتر جراس" مؤخرا أن الفن لا هوادة فيه وأن الحياة مليئة بالتنازلات، والجمع بين الفن والحياة معا أشبه بالمستحيل، وهذا ما كنت أحاول القيام به، وأن أجعل الفن كثيفا كالحياة كلما أمكن مما يؤدي إلي تغلب الواقعية علي الرومانسية قليلا، مما يعتبره أنصار الرومانسية خيانة".
واصلتا طرح تساؤلاتهما المتفرقة وكأنهما تستشعران أن الوقت يمر سريعا دون أن تحققا ما يرضيهما، وهذه المرة عن فكرة مسرحية البوتقة ومن أين أتت :
"فكرت فيها لأول مرة عندما كنت في متشجن، وقرأت الكثير عن محاكمات ساحرة سالم، ثم عندما جاءت حقبة الماركسية، بعد مدة طويلة نسبيا؛ تذكرت هذه القصص وأردت أن أقدمها للناس في البداية كما هي، ولم يكن في تفكيري أنها ستذهب إلي ما آلت إليه، وكنت أريد أن أقول لهم ما قالته ساحرات الصيادين في سالم ولهذا عدت أقرأ واستعيد هذه القصص، وكان غرضي تنشيط ذاكرتي لأن ما يحدث كان غريبا، ولم تكن فكرة كتابة المسرحية خطرت لي بعد، والتي واتتني بعد ذلك من التشابه بين ما حدث في تلك المحاكمات وما يحدث مع أتباع الماركسية، والحكم علي العقول لمجرد الاعتقاد أنها شريرة، ومن هنا بدأت مسرحيتي وتطورت".
وأخذهما حديثه إلي التفكير في تجربته الشخصية وانعكاساتها، وعما واجهه ميلر ويتشابه مع فكرة البوتقة :
"حسنا، كنت قد قدمت الكثير من التصريحات ووقعت علي العديد من الالتماسات، وشاركت عددا من المنظمات ووضع اسمي في القائمة المحظورة لخمسة عشر عاما من قبل، ولكني لا أعتقد أن في هذا الأمر ما كان يزعجني لو لم أتزوج مارلين، فلم يحدث معي من قبل، والمسألة أخذت تفقد تأثيرها عندي عن أي وقت مضي، كما لم يفكروا في المطالبة بمحاكمتي من قبل، فلماذا الآن؟؟، ثم أخذوا يرددون أن مارلين حملته إلي الصفحات الأولي في الصحف، وكان هذا وهمهم وكأنه لم يحدث من قبل، ولكن هذه المسألة أيضا فقدت تأثيرها ولم تعد تتصدر الصفحات الأولي، ولكنهم ما يلبثون أن يعاودوا الهجوم مرة أخري لينتهي الأمر بجلسة استماع جديدة".
ودفعهما مجددا لتساؤل لا مفر منه عما إذا كانت وجهة نظره السياسية تغيرت كثيرا عن ذلك الحين :
"أنا لست مستعدا أن أدافع عن الخطط الاقتصادية حاليا، وأنا لا أجد فيها أي فضيلة تذكر، ومتخوف أكثر وبشدة من منح بعض الناس الكثير من السلطة والصلاحيات دون ضمانات، أنا لا أثق في هؤلاء الناس، وكنت أعتقد أنهم لو لديهم فكرة سديدة فسيقومون بما يجب بشكل صحيح تماما، ولكن يوما بعد يوم مع النضال والقتال من أجل وقف الأشياء المروعة التي تستجد كل يوم، فطنت لحقيقتهم، ففي الثلاثينيات لم يكن من المعقول أن الحكومة الاشتراكية كانت حقا معادية للسامية، ولم يحدث، فالاحتجاجات في البداية كانت مناهضة لمعاداة السامية والعنصرية وضد أي نوع من الوحشية، لهذا السبب كنت منجذبا لهذا الفكر ضد هتلر والرأسمالية العمياء معا، أنا أكثر من واقعي بشدة في مثل هذه الأمور حاليا لأدرك أنني يجب أن أكون ضد من ويمكن أن أدعم من".
كاد لقاؤهما به ينتهي دون أن تتطرقا لعلاقة ديانته بفكره وكتاباته، ولكنهما أخيرا سألتاه عن تأثير التقاليد اليهودية فيه :
"لم يحدث قط من قبل، ولكن الآن ممكن وبشكل عكسي، علي الرغم من أنني لم أنتهج أيديولوجية معينة، أو تبني وجهة نظر بعينها، أنا أدرك أن هناك مآسي في العالم ولكنه يجب أن يستمر؛ فاليهود لا يستطيعون الاستمرار كثيرا في المأساوية وإلا ستطغي عليهم، ولهذا فمعظم الكتابة اليهودية تكون بحذر عملا بمبدأ "لا تدفع بهم بعيدا عن الهوية لأنهم عرضة للسقوط"، وهذه الفكرة مأخوذة من علم النفس واستثمار نفسي لضمان استمرارية الحياة، وعن نفسي لم أكتب عملا عدميا تماما من قبل".
وحانت لحظة النهاية والرحيل عن هذا الشاطئ التي جاءت تقليدية تماما بسؤالهما عما يقوم به في تلك الفترة :
"لا أود أن أتحدث عن ذلك، ولكن؛ لدي أفكار في خمسة مجالات، منها قصص قصيرة، سيناريو فيلم، وغيره، فأنا أجمع قصصي القصيرة أو أحاول ذلك، وأرجو أن استكمل كتابة مسرحية قبل أن يبدأ موسم المسرح في سبتمبر ولدي بعض البدايات الأخري ولكني لا أجد أو أري نهاية لأي منها، فأنا أخطط شيئا لمدة أسابيع أو أشهر وفجأة ابدأ في كتابة حوار دون أن أخطط له ثم يظهر أمامي شيء آخر لا أتحكم فيه، وكأنه برق أو ومضة تمر أمام عيني كنت أنتظرها طويلا ولكني أفضل أن أترك الأمر علي حاله حاليا حتي إشعار آخر".
2
شاطئ مانهاتن
عام 1999
استكمالا للحوار الطويل الأول الذي أجري مع أرثر ميلر قبلها بأكثر من ثلاثة وثلاثين عاما، تقدم الصحفي والباحث "كريستوفر بيجبي" ليواصل التحاور معه والذي يأتي بعد أن حصلت مسرحيته "منظر من فوق الجسر" علي جائزة التوني لأفضل إحياء، والتقي به بحديقة شارع 92 العامة بمنطقة ياهو بمدينة منهاتن شرق نهر هارلم، وبدا واهنا جسديا إلي حد ما ولكنه متماسك وعلي درجة عالية من التركيز.
بعد هذه الفترة الطويلة والتجارب التي خاضها، كان واقعيا أن يسأله لو أنه وجد نفسه بعد فترة الستينيات التي بدا متميزا فيها :
"لقد وجدت نفسي في أوقات كثيرة في المسرح بطريقة مماثلة لما كان عليه "كليفورد أوديتس" و"برتولد بريخت" في بدايتهما في الثلاثينيات مع اختلاف النوعية، وكلاهما عندي يكمل الآخر فقد كان تركيزهما بشكل كبير علي القضايا العامة، في حين ذهب تركيزنا تجاه توصيف الناس والصراعات بينهم؛ السياسية بشكل أساسي، ولكني شعرت أن هذا النهج مؤقت ولن يدوم".
خبرات ميلر وحنكته الكبيرة في هذا العمر جعلت محاوره يفضل الطرح المباشر ومنها أن مسرحية الثمن أعادت لميلر نجاحات وفاة بائع متجول :
"أظن أن السبب هو بالفعل مفهوم العودة؛ العودة إلي الماضي، فالشقيقان بشر عاشوا في الماضي مثلنا جميعا، والزمن يعيد نفسه ولو أنكروا ذلك، فلا يمكنهم التخلص أو الفرار منه وإلقاؤه في سلة المهملات، فالماضي يؤثر في الأبناء تماما كما أثر في الآباء والأجداد ولم يكن لديهم وسيلة للهروب منه؛ تماما كاستحالة أن يهرب المرء من ضربات قلبه، اسمع؛ كنت في عطلة بالكاريبي قبل إنتاج مسرحية "الثمن" عندما التقيت "ميل بروكس" ولم أكن أعرفه من قبل حيث سألني عما أفعل، فأجبته بأني أكتب مسرحية أسميتها الثمن، فسألني عما تدور حوله فذهبت أحكي له "هناك هذان الأخوان .... ثم قتل أحدهما الآخر وبعدها....." وقبل أن انتهي استوقفني وأخذ يبكي".
وجد وجها يبحث عنه فتدخل، وأشار إليه أنه وبعد الثمن حدثت تغيرات جذرية في فكر مسرحياته، ولكن ميلر واصل ما بدأه :
"لإظهار كيف اكتشف الإنسان ربه، حينما أدرك أنه في حاجة لقوة تردعه حتي لا يقتل أخاه، ولم يكن هناك في المكان أي شيء مادي يمكنه وقفه إلا السلطة الأكبر التي خلقته من الأساس، ثم بدأوا يؤمنون بهذه السلطة ككيان مستقل تماما عنهم، وانتظروا العدالة التي ستأتيهم منه، ومن هنا جاءت فكرة العدالة حتي يشعر الإنسان بشيء من الأمان، وإلا فماذا بعد أن قتل الأخ أخاه؟؟، سلطة عليا وقانون يفوق حتي طاقة البشر الأخلاقية التي من شأنها أن تخفف من ذعر من يخشون علي أنفسهم من القتل، لابد من وجود وسيلة حتي يتوقف العالم عن قتل نفسه".
وأبحر مجددا في هذا الاتجاه الذي ساعده فيما بعد عند كتابة سيرة ميلر، بسؤاله إن كان هذا الفكر سببا جعله يقاوم اللامعقول :
"لقد استمتعت بزيرو موستيل في مسرحية يوجين يونيسكو "وحيد القرن"، وأعتبرها واحدة من أعظم الأعمال التي شاهدتها في حياتي، فقد تحول بالفعل إلي وحيد قرن في المسرحية، واحتفظت به في الجزء الخلفي من ذهني دائما، ولكنك تحتاج أن تكون آمنا وجدانيا وفكريا حتي تستمتع بهذا، ومن هنا تحتاج إلي نظام عام، عليك أن تعيش في مجتمع لا يقتل فيه أحد أي شخص، وهذا ما يزعجني وأجده حاضرا أمامي دائما وما يفسد الموقف أن الجميع يستمتع ويمرح مع اللامعقول، وهو أمر مقلق ومخيف، أنا استمتع كغيري ولكني لا أضيع الطريق الصحيح مطلقا".
وانتقل به لزاوية أخري، بها أطروحة مغايرة في مسرحية بروح أوروبية التي كتبها في السبعينيات :
"ربما هذه أفضل لحظة أصف لك فيها تلك المسرحية، مجموعة من الناس في غرفة المعيشة الخاصة بكاتب في براغ حسب نظامها الحكومي القديم، وعلي خلاف الكثير من الناس، فإن هذا الكاتب متوافق تماما مع النظام ولكنه دائما ما يسقط في فجوة التناقضات عندما يسعي لمساعدة الناس المتورطين مع هذا النظام، وبالتالي يبدو مساندا للمنشقين، وعلي الجانب الآخر فلا يوجد منشق بخلافه لديه الكثير من المال وحرية أن يترك البلاد في أي وقت لحضور محاضرة في فرنسا أو إنجلترا ناهيك عن أنهم لا يمتلكون جوازات سفر من الأساس، فماذا يفعلون إذن؟، وبالتالي هو في دائرة الاشتباه، ولكنهم في نفس الوقت يحبونه لأنه يساعدهم، في الوقت الذي يعتقدون أنه يضع ميكروفونات مختبئة في سقف منزله حيث يستقبل أعضاء الأحزاب الكبيرة بينما هو علي تواصل مع الشرطة السرية، هذه المظاهر ذاتها حدثت في الولايات المتحدة في الخمسينيات، فرغم تبادلهم الحديث مع بعضهم البعض ولكنهم يرتابون ولا يثقون".
هذه الحدة الواضحة في عبارات ميلر أوحت له بتساؤل عن الخيانة كموضوع متكرر في مسرحياته الأخيرة :
»الفتي في بعد السقوط« يقول: لماذا الخيانة هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة؟؟، لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بشكل تام، ولكن بعد كل شيء، فإن الكتاب المقدس يبدأ من خيانة؛ أليس كذلك؟، بخيانة قابيل لأخيه هابيل ثم قتله، أعتقد أن الحاخامات القدامي الذين وضعوا هذا الكتاب المقدس أدركوا ذلك، إن الخيانة تخيم علي الكثير من الرجال ومن تهديداتها تأتي الحاجة إلي العدالة، إنها تحد لكل البشر لأجل الحفاظ علي الإيمان، واعتقد أنه لهذا أثره الكبير في أدبنا، وعلي الحياة الدينية في أنحاء العالم كافة بالتأكيد، وظهر ذلك في الكثير من أعمالي".
من الحديث عن الخيانة إلي السلوكيات المتناقضة بين الحزن والفرح في مسرحية وفاة بائع متجول :
"كل شيء محزن للغاية في المسرحية، ولكني في الحقيقة ضحكت كثيرا عندما كنت أكتبها، خاصة من شدة سخافة "ويلي لومان"، فالتناقض في حد ذاته يؤدي للضحك ولكن هذا الوقع لم يكن لدي الجماهير وأحمد الله علي ذلك، فإن تذكروا ذلك وفطنوا له فلن تحدث النقلة المطلوبة من الأساس، فالضحك يعني الاعتراف بالمستحيل".
وحتي لا يرهقه انتقل به لفكرة أخري لا تقل جدية وربما تزيد عن تشككه في أمر محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية :
"أنا ككل كيان من شكوك، إلي جانب أنه لا أحد وسط هذه الملابسات يستطيع أن يكتب عن هذا الموضوع من منظور واحد، وبالتأكيد لم يكن أحد من هؤلاء هناك، ولكني لا أستطيع أن أتقبل البديل بأن أسلم بأشياء لا دليل عليها، ولا يمكنني كذلك أن أواجه شيئا كهذا بالصمت، ومثلما هناك من يؤمن بهذا الأمر، فهناك أيضا مجموعة كبيرة جدا من الناس ينكرون أن يكون قد حدث شيئ من هذا القبيل فيما مضي، أو لا يصدقون بما فيه الكفاية والقناعة، لهذا قررت أن أكسر الصمت وأوجه المؤشرات والدلائل بمنطقية ولكني مع الوقت وجدت أنها أقل من موضوعات كثيرة وقضايا تستحق الاهتمام لهذا تسللت بعيدا عنها، فعندما علمت عن المحرقة خلال العشرينيات والثلاثينيات من عمري عرفت أن الألمان أكثر الأوروبيين ثقافة، وجدي الذي ولد في بولندا وأمضي بعض الوقت في فيينا ليعمل خياطا؛ كان يقول إن الألمان أذكياء ومعظمهم غير معاد للسامية أما الروس فكانوا أغبياء والبولنديون كذلك بينما الفرنسيون ميئوس منهم، لهذا كان يتطلع للألمان من أجل المساعدة، وسمع كغيره الأخبار المدمرة، وكأنه نوع من اللامعقول، وما سمعوه الأكثر دراماتيكية مما يمكن أن يتصوره إنسان إلي حد يجعله يشعر بألم فظيع ومبرح لا يحتمل، ولكنه في ذات الوقت يجعل من البقاء علي قيد الحياة إنجازا ويبث فيك روحا عظيمة، عبرت عن هذه المقاومة العنيدة في البوتقة مع أشخاص قابلتهم في ولاية ماساشوستش ولكنهم للأسف ظلوا أحياء أجسادا بلا روح".
وانتقل به مجددا لحدث آخر له تأثيره المتوقع علي ميلر عن لقائه الهام بجورباتشوف عام 1984 :
"جاءتني مكالمة هاتفية من كاتب التقيت به في أوروبا أخبرني أنه في قرغيزيا ولم أفهم ماذا يريد مني، وطلب مني حضور اجتماع مع مجموعة من الكتاب، فرفضت وأكدت له أنني لن أحضر مزيدا من الاجتماعات، فألح مؤكدا أنها غير حكومية، فأجبته قائلا "مستحيل"، ثم سألته دون أن أفكر "أأنتم في روسيا"، وعندها أجابني بالإيجاب، وأن هناك شيئا ما هاما يحدث، خاصة أن ذلك يأتي بعد بضعة أشهر من تولي جورباتشوف للسلطة، يكفي لكي يثيرني ويأخذني إليهم، وكان هناك الكثير من الفرنسيين والألمان والإيطاليين وغيرهم، جلسنا حوله وكنا نحو أربعة عشر أو أكثر، وما يثير اهتمامنا أنه كان يردد أن "الحاضر ليس كالماضي"، فإن أمعنا التفكير في الأمر قليلا، فماركس لم يعرف شيئا عن صنع القنبلة النووية، بالتالي فالماضي لم يكن أسوأ مما جاء بعده، وعلينا أن نستند إلي الواقع بدلا من النظريات، ثم كانت لي لحظة خاصة معه، فسألته "هل أنت شيوعي؟" فأجابني "أنا لينيني ولست ستالينيا"، ثم تساءلت إن كنا سنبدأ حقبة ماركسية جديدة وبحديثي عند عودتي مع "هاريسون سالزبوري" الصحفي المتقاعد في نيويورك تايمز، أدركت أن هذه الإجابة تحمل في طياتها خبرا هاما وانفرادا ولحظة تاريخية غير عادية، فعندما تفقد الحكومة المسئولة عن دول مثل روسيا التي تمتلك القنبلة النووية، وكل هذه الطائرات وأكبر جيش في العالم هويتها الأيديولوجية، ومن ثم وبكل تأكيد ستفقد قوتها، فلابد أن تسقط، وما قاله الرئيس الروسي دليل علي أنه ونحن معه لا نعرف إلي أي جحيم نحن ذاهبون".
وإلي منطقة أخري يحبذها كل كاتب مثل ميلر، وتساؤل حول مقولته إن وظيفة الفن أن يخبر السلطة بالحقيقة، وإن كانت السلطة ترغب في ذلك :
"يختلط علي الأمر في أحيان كثيرة، ولكني لا أظن ذلك، فالسلطة هي السلطة، ولو أنها استمعت فلن تكون سلطة، فلسفتي وروحي إن لم تضف إليهم ماديا أو تخدم مصالحهم فسيلقون بها في البحر، حتي وإن كانوا لا يعرفون إلي أي جحيم هم ذاهبون، وما أخبرتك به عن جورباتشوف دليل علي ذلك".
ثم أبدي ملاحظة شخصية عن تغيرات في مشاعر ميلر لمسها بنفسه في مسرحياته بعقد التسعينيات :
"ليس تغيرا ولكنه قدر من التطور، ففي إحدي هذه المسرحيات أختبر ما إذا كانت الفطرة البشرية في حاجة إلي ضبط وأدركت أنه لا يمكن ذلك، فنحن نعجز في كثير من الأحيان عن فعل ما نريد، بعض الناس تسيطر عليهم غريزتهم الجنسية فنتساءل ما الخطأ في التعبير عن هذه الحقيقة الصادقة بصرف النظر عن الضرر الذي سيقع عليهم لأن الفائدة النفسية أكبر، وفي المسرحية الرجل يريد كل شيء دون التزامات وذلك في ظل خلافه الدائم مع الأخلاقيات، ربما تظن أني منفتح، وهذا صحيح في هذه المسرحية ولكنه أمر نادر رغم أن الوقت الذي كتبتها فيه كان صعبا للغاية، فإدانة الرجل علي دوافع موجودة في معظم الناس تعد ظلما له، وأكثر صعوبة إن كنت تقصد بها إدانة الجنس البشري بأكمله، فهل أتغاضي عنها؟؟، حسنا، أنت لا تستطيع أن تفعل ذلك إما بسبب الألم الذي ستسببه لأشخاص آخرين أو الفوضي الاجتماعية التي يمكن أن تبرر هذا السلوك، وهذا هو أصعب شيء في الكتابة، ولكني اقتربت من أفضل نتيجة ممكنة إلي حد ما".
ومن حيث انهي كلماته الأخيرة، أضاف المحاور سؤالا ليكمل وجهة نظره، وإن كان يجب أن تحدث المسرحيات تغيرات كبيرة :
"هناك اختلافات كبيرة بين مسرحية وأخري، بعضها يسقط، بعضها يقاوم وغيرها يطغي علي الجميع، وأنا أعيد النظر في ترتيب أفكاري عموما لمواصلة الكشف عن الموضوعات، واكتشاف علاقات جديدة ويمكنك أن تجد علي شبكة الانترنت كل المواضيع التي تلبي كافة الاحتياجات، ويبقي أن تبحث عن العلاقات بين الأشياء ".
لم يحاول أن يتباهي بقدر رغبته في أن يفهم أكثر عندما سأله عن المغزي السياسي من الشلل في الزجاج المكسور :
"لم أفكر في ذلك في حينه، ولكن هذا ما نشعر به عادة عندما نقرأ عن أماكن مثل سراييفو أو البوسنة، إنه الشلل، وقضية لا نستطيع المضي قدما فيها ومثلها الكثير هذه الأيام".
وتساؤل آخر للكشف عن القليل المتبقي في غموض كتابات ميلر عن قيمة المفهوم وإصراره عليه في مسرحياته :
"في وقتنا هذا، بأي لغة يمكن تشكيل شيء نسميه مسرحية، ولكن إن كنت مطالبا بالتعامل مع أزمة وصولا لذروة وقضايا مطروحة تحتاج لحلول، هنا أنت في حاجة إلي مفهوم محدد، بعض الكتاب يبدأ مع المفهوم، والبعض يقوم بتوصيف موضوعي يؤدي إلي حركة ما، وغيرهم يفعل ذلك مع شخصية أو أكثر، أو حتي بخط درامي رفيع وربما وضع طبيعي ما يحتاج لقدر ضئيل من التعديل، ولكني أري أن المسرحية يجب أن تصل إلي أقرب شكل بنائي واضح ثم تحاول أن تكتشف تدريجيا من أي مكان يمكن أن تبدأ".
وختم الرحلة الطويلة لأكثر من ثلاثة عقود بتساؤل عن مستقبل المسرح في الألفية الجديدة :
"إنه الوسيلة المناسبة، بل والوحيدة الأبسط التي يمكن لمواطن أن يتصدي بها ويقف في وجه التحديات الجسام التي تزداد تعقيدا بمرور الزمن، وإحدي أهم الوسائل التي تمكن المجتمع من معالجة نفسه ذاتيا، وسمات أخري تجعله أقل تعقيدا من غيره من الروافد الدرامية ومنها بالطبع صناعة الأفلام ناهيك عن الحميمية والمباشرة ومشاعر لا بديل عنها ولا شبيه، والأهم بالنسبة لي ككاتب أن متفرج المسرح يمكن أن يذهب من أجل كاتب، أما السينما فلا أظن ذلك علي الإطلاق، فالكلمة في المسرح عظيمة الأثر وتوازي الصورة في السينما، ولا أعتقد أن المسرح في كل الأحوال يمكن أن يموت، والدليل أن هناك المزيد والمزيد من الشباب الذين يريدون أن يكونوا فيه وجزءا منه".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.