لم يعلم الصبي مصطفى عبد الرازق، الذي نشأ في كنف أسرة عريقة معروفة بخدمة القضايا الوطنية، بأن دوره في النضال قادما، وأنه سيصبح أحد رواد التنوير والفكر والتجديد في الأزهر الشريف. عبد الرازق ولد في 1888 بقرية «أبو جرج» التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا، ونشأ في كنف أبيه حسن عبد الرازق، الذي كان عضوا بالمجالس شبه النيابية التي عرفتها مصر منذ عصر الخديوي إسماعيل، وكان والده من مؤسسي جريدة "الجريدة"، التي دعت إلى الحكم الدستوري والإصلاح الاجتماعي والتعليم، وكذلك كان والده من مؤسسي "حزب الأمة". قضى مصطفى عبد الرازق طفولته في قريته، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل في العاشرة إلى القاهرة، والتحق بالأزهر ليحصل العلوم الشرعية واللغوية، حيث درس الفقه الشافعي، وعلوم البلاغة والمنطق والأدب والعروض والنحو وغيرها. تلميذ الإمام محمد عبده وبدأ عبد الرازق يتردد منذ سنة 1903 على دروس الإمام محمد عبده في الرواق العباسي، وكان يفسر القرآن الكريم، ويشرح كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وتأثر التلميذ بشيخه وبأفكاره الإصلاحية، وتوثقت الصلة بينهما، وصار من خاصة تلاميذه وأقربهم إليه، رغم قصر المدة الذي اتصل فيها بشيخه الكبير.
وظل عبد الرازق وفيا لشيخه، ولم يترك الحديث عن جهاده تأليفا ومحاضرة وتدريسا وكتابة في الصحف عن سيرة الإمام وأثاره، ووجهته في الإصلاح حين دعا إلى التوفيق بين العقل والنقل، وإلى تحرير العقل من التقليد؛ لأن النظر العقلي هو أساس الإيمان الصحيح. الدراسة في السوربون وبعد حصول عبد الرازق على العالمية عام 1908، بدأ حياته العامة، وأبدى اهتماما بالمشاركة في الجمعيات العلمية والأدبية، كالجمعية الأزهرية التي أنشأها محمد عبده، واختير رئيسا لها، وكانت الجمعية تجتمع لدراسة إصلاح التعليم في الأزهر. وبدا للشيخ أن يسافر في عام 1911 إلى باريس؛ لاستكمال دراسته العليا، والوقوف على الثقافة الغربية ومعرفة ينابيعها، فالتحق بجامعة السوربون لدراسة اللغة الفرنسية، وحضر دروس الفلسفة، ودرس الاجتماع على يد دوركايم، وتلقى دروسا في الأدب وتاريخه، ثم تحول إلى جامعة ليون ليدرس أصول الشريعة الإسلامية على أستاذه إدوارد لامبير، وفي أثناء إقامته هناك أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراة وكانت بعنوان "الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام "، وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد مع زملائه المصريين الذين كانوا يدرسون في أوروبا سنة 1914. على ضفاف السياسة والأدب والفن وبعد عودة عبد الرازق إلى القاهرة، عين عام 1915 موظفا في المجلس الأعلى للأزهر، ثم لم يلبث أن ترقى إلى وظيفة سكرتير المجلس، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي سنة 1920؛ حيث عمل مفتشا بالمحاكم الشرعية. واشترك مع أقطاب أسرته في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين 1922،وإن لم يندمج هو في أنشطة الحزب السياسية اندماجا كبيرا بسبب طبيعته الهادئة وميله إلى الفكر والأدب، واكتفى بنشر مقالاته الأدبية والاجتماعية والدينية في صحيفة الحزب المعروفة باسم "السياسة". لا يعرف الكثيرون أن العالم الأزهري كان صديقا لرائد النحت المصري محمود مختار، وشارك في حملة الاكتتاب التي نودي بها لإقامة تمثال نهضة مصر، بل كان أحد الداعمين لمجيء أم كلثوم وغنائها بالقاهرة . رائد الفلسفة الإسلامية حين صارت الجامعة الأهلية في مصر جامعة حكومية، انتقل عبد الرازق إليها في سنة 1927 أستاذا مساعدا للفلسفة بكلية الآداب، وكان أول أستاذ مصري يلقي محاضرات في الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية. ويعد الشيخ مصطفى عبد الرازق، رائد الدرس الفلسفي في مصر المعاصرة، وأول أستاذ جامعي يدرس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، حيث كانت تدرس من قبل في الجامعة المصرية من خلال الدرس الاستشراقي الذي ربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وأنكر أي دور للعقل المسلم في تطوير الفكر الفلسفي عامة. وجحد الشيخ غالبية الباحثين الأوربيين وبعض الكتاب المحدثين من المسلمين، الفكر الإسلامي كل جديد وإبداع، وأعلنوا أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة الكندي والفارابي وابن طفيل وابن باجة وابن رشد، وهي الطائفة التي عرفت باسم فلاسفة الإسلام، وحاول هؤلاء أن يبينوا التطابق التام بين ما يسمى لديهم فلسفة إسلامية والفلسفة اليونانية، وأن يردوا الأولى إلى الثانية، مع تفصيلات جزئية. وقدم الشيخ مصطفى عبد الرازق رؤية جديدة، كانت بمثابة نقطة تحول في تاريخ الدرس الفلسفي الإسلامي في مصر؛ تقوم على تلمس نشأة التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية ويدرسوها دراسة وافية، ودعا إلى تدريس علم الكلام والتصوف في أقسام الفلسفة، وإلى البحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية. الفيلسوف شيخا للأزهر واختير الشيخ مصطفى عبد الرازق وزيرا للأوقاف عدة مرات (1937-1944م)، فكان أول شيخ أزهري يتولى الوزارة في مصر، ومُنح لقب الباشاوية، لكنه آثر عليه لقب شيخ، ولم يخلع عمامته طوال حياته، وفي 27 من ديسمبر 1945، عين عبد الرازق شيخا للأزهر خلفا للشيخ المراغي، غير أن مشيخته لم تطل؛ حيث توفي في 15 من فبراير 1947. مؤلفاته وترك الشيخ عددا من المؤلفات؛ فكتب دراسة صغيرة أدبية عن البهاء زهير، الشاعر المعروف، ونشرت سنة 1930، وأصدر كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" عام 1944 وهو أشهر كتبه وأهمها، وله أيضا كتاب "فيلسوف العرب والمعلم الثاني"؛ تناول فيه فلسفة كل من الكندي والفارابي، بالإضافة إلى كتاب "الإمام الشافعي"، وكتاب "الشيخ محمد عبده"، الذي يجمع مقالاته ودراساته عن أستاذه، وركز فيه على الجانب الإصلاحي والفلسفي من حياة الإمام، كما ترجم "رسالة التوحيد" لمحمد عبده إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنار ميشيل. وحظي الشيخ مصطفى عبد الرازق بتقدير الهيئات والمجامع العلمية، فاختير عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما تناول فكره عدد من الدراسات والأطروحات العلمية.