تصدرت عملة ال"بيتكوين" خلال الأيام الماضية المشهد الاقتصادي والمالي بعد أن تجاوزت قيمتها 19 ألف دولار، وأثار صعودها القياسي تساؤلات كثيرة حول ماهية تلك العملة الرقمية ومدى تأثيرها على النظام المالي العالمي. بيتكوين عملة رقمية إلكترونية تتداول عبر الإنترنت فقط من دون وجود مادي لها رغم أنه يمكن مقارنة قيمتها بالعملات التقليدية الأخرى مثل الدولار أو اليورو، ولكن تختلف البيتكوين عن العملات التقليدية، فهي ليس لها بنك مركزي أو هيئة تنظمها أو دولة تدعمها، وتتم المعاملات من خلال شبكة بين المستخدمين مباشرة دون وسيط من خلال استخدام نظام تشفير. وحول مدى تأثير البيتكوين على النظام المالي العالمي، نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية مقالا للكاتب ويل هوتون، يشير فيه إلى أن البيتكوين ذاتها مجرد فقاعة، لكن التكنولوجيا التي وراءها (Block Chain) هي بالفعل التي يمكن أن تغير العالم. وإليكم نص المقال: أقدم أنواع "التكنولوجيا الإنسانية" مساهمة في التحول المبكر تمثلت في القدرة على تسميد النباتات وتربية وتكاثر الحيوانات، وفيما بعد، أصبح الاتجاه نحو الزراعة أكثر منطقية من الاهتمام بالصيد والجمع. كانت الزيادة في الإنتاج الزراعي تعني أن البشر أمنوا القلق بشأن البقاء على قيد الحياة وبالتالي يمكن أن يفعلوا أشياء أخرى أكثر، ومن هنا بدأت الحضارة الإنسانية. كانت قصة آلاف السنين اللاحقة هي حول كيف أن ظهور التكنولوجيات ذات الأغراض العامة، بدءا من الطباعة إلى محرك البخار، قادت بقوة إلى قفزات مماثلة في تحويل اقتصادنا وحياتنا وحضارتنا، واليوم، نحن نعيش عبر شيء جديد. الرقمنة هي التكنولوجيا الأكثر قوة التي من الواضح أنها لن تترك أي مجال للنشاط البشري دون خوضه، من خلال تحويل كل ما هو بدني أو مادي ملموس إلى رقمي. هذا التطور خلق بالفعل قدرات جديدة مذهلة، بدليل أنك الآن تقرأ هذا المقال على شاشة الهاتف الذكي أو الكمبيوتر اللوحي (التابليت)، لكن كل ما ظهر من مغامرات تكنولوجية كان مجرد بداية، فكل شيء، من البنوك إلى الصحة، على وشك أن يشهد تحولات مماثلة. في الأسبوع الماضي، تصدر تزايد سعر العملة الرقمية الافتراضية المشفرة "بيتكوين" الصفحات الأولى، ووصل سعر بيتكوين في فترة وجيزة إلى 19 ألف دولار خلال الأسبوع الماضي قبل أن تنخفض وتستقر عند 14 ألف دولار، أمس. جدير بالذكر أنه عندما تم طرح عملة بيتكوين الافتراضية للمرة الأولى عام 2009، من قبل شخص غامض أطلق على نفسه اسم ساتوشي ناكاموتو، كانت تقريبا لا تساوى شيئا في السوق، وبدأت تكسب الثقة تدريجيا، وبحلول 2010 كان سعرها أقل من 0.1 دولار، وفي عام 2011، أصبحت عملة البيتكوين الواحدة تساوى دولارا واحدا، وتوالى التداول الرقمي لقيمة العملة صعودا وهبوطا على مدى الشهور التالية. وفي بداية عام 2017 وصلت قيمة البيتكوين إلى ألف دولار ثم شهدت تراجعا طفيفا في الأيام التالية حتى تخطت حاجز التوقعات بشكل جنوني لتبلغ قيمتها 19 ألف دولار للعملة الواحدة الأسبوع الماضي قبل أن تنخفض إلى 11 ألف ثم تتعافى لتصل إلى 14 ألف دولار. تلك العملة المجنونة تحاكي كل فقاعة مالية في التاريخ، لكن الفقاعات لا تخرج من الفراغ، فمن أجل ضمان صحة عمليات التحويل في نظام البيتكوين، يتم الاحتفاظ بجميع بيانات المعاملات المالية والأصول والمصاريف التي تتم في سجلات يطلق عليها سلسلة الكتل (Block Chain). في الواقع، تكنولوجيا "سلسلة الكتل" اخترع لأول مرة من قبل منشئي البيتكوين للتأكد من عدم وجود احتيال، بحيث يُضمن أن عملة البيتكوين الواحدة تصرف لمرة واحدة فقط. سلسلة الكتل تكنولوجيا رقمية تأسيسية تنافس الإنترنت في إمكاناتها للتحول. وللشرح: هي حزم واسعة من البيانات تمتاز بقدرتها على إدارة قائمة متزايدة من السجلات المسماة (كتل) المتصلة دائما مع بعضها البعض. وعلى الرغم من أن كل كتلة تحتوي على رابط إلى الكتلة السابقة لها في السلسلة، فإن فقط مالك كل كتلة لديه المفتاح الرقمي أو الكودي للوصول إليها دون غيرها. يتم إنشاء الكتلة من قبل شركات متخصصة في هذا المجال، ولا يمكن لأي حكومة أو منظم أو سلطة شرطية إغلاق الكتلة. سلسلة الكتل هي شرطة ذاتية، بمعنى أن أي شخص يحاول إطلاق تبادل بيانات خارج بروتوكولات السلسلة سوف يتم رصده على الفور من قبل الكتل الأخرى، وسيتم إحباط التبادل. لا يوجد اتجاه حكومي أو مركزي، وليست هناك حاجة إلى إذْن لإنشاء كتلة، وبذلك اكتسب العالم فجأة نظاما لتبادل سريع وموثوق به لكميات هائلة من البيانات دون وسطاء أو إشراف. بنفس الطريقة التي حل بها الفيسبوك، والأمازون، وجوجل محل وسائل الإعلام وشركات الاتصالات التقليدية، هذا الاحتمال يواجه البنوك وشركات التأمين والعديد من الخدمات العامة من خلال هذا النظام التكنولوجي الوليد. يمكن إعطاء بياناتنا الصحية لسلسلة كاملة لتقييمها، بدلا من الطبيب الفردي، ويمكن للسلسلة حين ذلك تقييم وتسعير الخطر القابل للتأمين، لا عجب أن المستثمرين يسيل لعابهم على احتمالية أن المنظمات غير الرقمية القديمة يتم إخراجها من سوق الأعمال التجارية وتنتقل ثرواتها الضخمة إلى شركات رقمية تحل محلها. كما يمكن أن يكون القطاع المصرفي هو أحد أول الضحايا. الآن أنت يمكنك تقديم بطاقتك الائتمانية لإجراء عملية دفع لمتجر أو سيارة أجرة، وبالتالي تحول الدفع النقدي بالفعل إلى تحويل رقمي، لكن لا يزال المدفوع له يريد أن يعرف أن البنك قد أثبت مصداقية الدافع الائتمانية قبل قبول الصفقة. لكن تكنولوجيا سلسلة الكتل تغير كل شيء. إنها وسيلة للتحويل النقدي الرقمي من خلال العملات المشفرة، التي من أشهرها البيتكوين، بكميات هائلة عبر أي حدود على الفور. لا حاجة لبطاقة الائتمان أو للبنك المركزي أو الحكومة لضمان قيمة المال. فقط يكفيك شراء البيتكوين من شركات ومواقع متخصصة على الإنترنت، فأنت لديك القدرة الشرائية في المحفظة الرقمية الخاصة بك التى يمكن اعتبارها حسابا بنكيا يتم فيه تخزين عملات البيتكوين، وكلما ارتفعت قيمة البيتكوين، كلما أتيح لك المزيد من القوة الشرائية. بالتالي، يمكن أن يواجه النظام المالي التقليدي بأكمله في السنوات المقبلة تحديا قاسيا مثل التي واجهته الصحف وتجار التجزئة عندما تحول الناس إلى البدائل الرقمية بالقراءة والتسوق عبر الإنترنت. إن تكنولوجيا سلسلة الكتل أو الBlock Chain تشكل تهديدا كبيرا للبنوك كما فعل الفيسبوك والأمازون مع شركات الإعلام التقليدية. والسؤال هو عما إذا كانت البنوك ستعيد اختراع نفسها باستخدام نفس التكنولوجيا كأداة رئيسية في المعاملات المصرفية وتقوم بدور سماسرة العملة المشفرة قبل الآخرين. ومع ذلك، المشكلة هي أن بيتكوين، مثل غيرها من العملات المشفرة الافتراضية، ليست وسيلة موثوقا بها لتخزين القيمة، التي هي وظيفة النقود الرئيسية، لأنها عرضة لمخاطر التقلبات بشكل مستمر كما حدث الأسبوع الماضي عندما تقلص سعرها إلى النصف في أسبوع. لذلك من الأفضل عدم التفكير في البيتكوين كأمان مالي؛ بدلا من ذلك، كسلعة تستخدم تكنولوجيا "سلسلة الكتل" لجعل المعاملات أسرع. صحيح أن ذلك قد يؤدي إلى استبدال العملاء للبنوك في الملايين من المعاملات المالية، الأمر الذي يتسبب في إصابة القطاع المصرفي التقليدي بضربة قاسية، ولكن من غير المحتمل أن تحل محله بشكل كامل. ومثل الصدمة للبنوك، سوف تدير تكنولوجيا "سلسلة الكتل" صدمات مماثلة للتأمين والرعاية الصحية وجميع أنظمة الدفع الجماعي، وسيواجه الوسطاء في صناعات الخدمات عالما جديدا يتم فيه أداء وظائفهم الروتينية بواسطة آلات مبرمجة بواسطة الذكاء الاصطناعي، في حين أن سلسلة الكتل قد تصبح الوسيلة الجديدة للقيام بالأعمال التجارية بأمان بشكل أسرع وأقل خطورة. هناك نقاط ارتكاز جديدة في القوة الاقتصادية، لكن لا تزال هناك مصلحة عامة في ضمان المساءلة والعدالة والإنصاف. باختصار، علينا فهم وتشكيل هذا العالم الجديد قبل أن يقوم بتشكيلنا. المقال من المصدر