أكثر ما يثير الحزن والألم فى الشارع المصري اليوم، هو حالة الانحدار الأخلاقى التى أصابت الناس. ذات يوم، كنت فى طريقى إلى المعادى، ووجدت طريق الكورنيش مزدحما بدرجة غير معقولة، السيارات تتقدم ببطء شديد جدا، والحركة فى اتجاه المعادى شبه متوقفة تماما. وبعد نصف ساعة من الحيرة عرفت السبب، زفة وفرح شعبى وعدد من الميكروباصات تحمل عشرات المعازيم، ومجموعة من الموتسيكلات يقودها عدد من الشباب، قرروا أن يحتفلوا بالعريس والعروسة على طريقتهم، بتعطيل حركة المرور فى كورنيش النيل، هذا الشريان الحيوى الرئيسى الذى يربط شمال القاهرة بجنوبها، ولا أدرى حتى الآن ما العلاقة بين أن أعبر عن فرحتى وبين أن أنغص على الآخرين حياتهم؟ وفوق كوبرى الملك الصالح، أوقفوا حركة السيارات تماما فى الاتجاهين، وأنزلوا العريس والعروسة من سيارتهما المزينة بالورود والورق الملون ليتم تصويرهما بالفيديو وهما يرقصان معا وسط حلقة من الموتسيكلات. لم أصدق ما شاهدته بعينى، ألهذه الدرجة من الاستهتار بلغ بنا الحال؟ ألهذه الدرجة من اللا مبالاة وصل بنا الوضع؟ ألم يفكر أحد من هؤلاء الشباب أنه فى هذه اللحظة قد يكون هناك منزل يحترق، وعربة الإطفاء عاجزة عن الوصول إلى مكانه، أو شخص يحتضر، وسيارة الإسعاف غير قادره على إنقاذه وإسعافه، أو حتى شخص يعمل بكد طوال النهار، ويريد أن يعود إلى بيته سريعا ليرتاح قليلا؟. مثل هذه السخافات تحدث منذ سنوات بعيدة، وقد رأيت مثلها كثيرا منذ أن كنت صبيا صغيرا، لكن الفارق بين الأمس واليوم، أنه بالأمس كان يظهر من بين أصحاب الفرح شخصا كبيرا، حكيما، له هيبته وكلمته المسموعة، ينهر شباب الفرح عن هذا العبث والاستهتار ويعيد الأمور لصوابها، أما اليوم فيبدو أن هذا الشخص لم يعد موجودا، لم يعد يعيش فى عالمنا، لقد مات، وفقدنا بموته قيمنا الأصيلة الموروثة كالذوق والمروءة والشهامة والجدعنة. ولم يقتصر هذا الانحدار الأخلاقى على الشارع المصرى، بل انتقل بصورة مفزعة إلى الواقع السياسى، فى ظل انقسامات لم تعد تفرق بين الحوار والشتائم، وبين الانتقاد والقذف، وبين خلاف الفكر وصراع المصالح. لقد حمل الانقسام السياسى فى مصر كل أمراض الشارع ابتداء بالاغتيالات المعنوية، وانتهاء بالتصفيات الأخلاقية. ووسط الرغبات العدوانية فى الإقصاء والتدمير والتشهير، أصبح من الصعب أن نجد خلافا سياسيا رفيعا يحترم الرأى الآخر. حتى الفن لم يسلم من هذا الانحدار الأخلاقى، وأصبح تجار الخردة وأصحاب محلات الجزارة يمارسون مهنة الإنتاج الفنى، وظهرت أفلام المقاولات التى صورت الفهلوة والبلطجة وتجارة المخدرات وحياة الكباريهات والدعارة وغيرها، كأنها هى سمة الحياة الوحيدة فى مصر. ولم يكن غريبا أن يتصدر الفضائيات الآن مطربو الدرجة الثالثة، ونجوم ما بقى من شارع الهرم. والكارثة الكبرى هو هبوط الذوق العام للمواطن المصرى الذى كان من قبل يستمع لموسيقى عبد الوهاب، ويطرب لأغانى أم كلثوم، ويتذوق أدب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم الكثيرين. وكأننا لم نكتف بالفن الهابط الذى أفسد ذائقة المصريين، ولكننا سرعان ما اتجهنا بقوة إلى الإعلام الهابط، لنُفسد ما بقى من الترفع فى أذواق الناس. والأسوأ من ذلك كله أن يتحول الإعلام المصرى، فى سابقة هى الأولى من نوعها، إلى وسيلة لاقتحام خصوصيات الناس وإذاعة أسرارهم الخاصة ومكالماتهم التليفونية على الملايين بصورة تثير الأسى والغثيان. وعلى صفحات الجرائد، لم نعد نقرأ رأيا سديدا أو فكرا صائبا، ولكن الاتهامات المرعبة بالتخوين والعمالة لجهات أجنبية تنطلق صباح كل يوم، ليفقد المصريون آخر ما كان لديهم من أساليب الحوار وترفع الكلمة. ووسط هذا الانحدار الأخلاقى المريع، كانت الأمية تنخر فى عظام المجتمع المصرى، وتدمر آخر ما بقى فيه من قيم الزمن الجميل. ومع الأمية كان فقراء العشوائيات وحشود العاطلين يتناثرون على وجه المجتمع مثل الأمراض المستعصية، فكانت لعنة المخدرات والاغتصاب والنصب والسرقة والبلطجة والقتل، وللأسف الشديد أن هذه الظواهر السلبية السيئة تحولت إلى واقع اجتماعى شديد البؤس والقسوة. بفعل ماذا حدث هذا الانحدار الأخلاقى؟ هل بفعل الفقر؟ هل بفعل الجهل والتخلف؟ هل بفعل المد الوهابى والتدين الزائف؟ هل بفعل الثقافة التى تراجعت وأخذت معها سلوكيات وأخلاقيات الزمن الجميل؟ هل بفعل الانفتاح الاقتصادى فى السبعينات والتغيرات الاجتماعية الحادة التى صاحبته واطاحت بكل القيم والثوابت؟ إن التجاوزات الأخلاقية والسلوكية التى طفت على سطح المجتمع المصرى ليست وليدة أحداث عابرة ولا أوضاع مؤقتة، ولكنها رواسب من الماضى البعيد، ويجب أن يتصدى لها الجميع، إنها تحتاج إلى دعم النخبة المثقفة بعد أن تفيق من غفوتها وثباتها، وتحتاج إلى دعم القادرين بعد أن يتخلصوا من مطامعهم وجشعهم، وتحتاج أصحاب الفكر وعلماء الاجتماع لكى يتتبعوا هذه الظواهر الأخلاقية ويعودوا بها إلى جذورها العميقة المختلفة، وكيف وصلت بنا إلى ما نحن فيه .إن أخلاق المصريين فى محنة حقيقية تحتاج الى صحوة الضمائر قبل أى شىء آخر.