سنوات عجاف حافلة بالأحداث الصاخبة مرت على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، منذ أن تولي منصبه في سبتمبر عام 2014، وهو الوقت الذي كان فيه العراق يمر بأحلك الأزمات، حيث كان تنظيم داعش قد سيطر على حوالي ثلث مساحة الأراضي العراقية حتى بات على مشارف الدخول إلى العاصمة بغداد، إضافة إلى الانقسام السياسي الذي كان ينخر في عظام المؤسسات العراقية، فضلا عن الأزمات الاقتصادية واتهامات الفساد والرشاوى التي استشرت في البلاد حينها وأثقلت كاهل الحكومة والبرلمان العراقي على مدار سنوات، وبعد ما يقرب من 3 أعوام على تولي العبادي مسؤولياته، وما يزيد على عام منذ إعلانه إطلاق عمليات عسكرية لتطهير البلاد، خرج العبادي، قبل أيام ليعلن طي صفحة إحدى أخطر الأزمات على بلاده، وفتح صفحة جديدة من المعارك. دحر داعش بعد مرور أكثر من عام على انطلاق العمليات العسكرية من الموصل شمالي العراق في أكتوبر عام 2016، أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي، السبت الماضي، سيطرة قواته بشكل كامل على الحدود السورية العراقية، مؤكدًا انتهاء الحرب ضد تنظيم "داعش"، وقال العبادي، خلال افتتاح مؤتمر الإعلام الدولي في بغداد: "قواتنا سيطرت بشكل كامل على الحدود السورية العراقية ومن هنا نعلن انتهاء الحرب ضد داعش، معركتنا كانت مع العدو الذي أراد ان يقتل حضارتنا، ولكننا انتصرنا بوحدتنا وعزيمتنا، وبفترة وجيزة استطعنا هزيمته. وأكد العبادي: "لقد أنجزنا المهمة الصعبة في الظروف الصعبة، وانتصرنا بعون الله وبصمود شعبنا وبسالة قواتنا، وبدماء الشهداء والجرحى أثمرت أرضنا نصرًا تاريخيًا مبينًا يفتخر به جميع العراقيين على مر الأجيال.. نعلن لأبناء شعبنا ولكل العالم أن الأبطال الغيارى وصلوا لآخر معاقل داعش وطهروها، ورفعوا علم العراق فوق مناطق غربي الأنبار التي كانت آخر أرض عراقية مغتصبة، وأن علم العراق يرفرف اليوم عاليًا فوق جميع الأراضي العراقية وعلى أبعد نقطة حدودية". إعلان العبادي، أثار حماسة الشعب الذي خرج في احتفالات جماهيرية عفوية، رافعين الأعلام ابتهاجًا بانتهاء مرحلة داعش وتحرير الأراضي العراقية، وأعلنت مصادر حكومية أن مهرجانات واحتفالات شعبية ستقام في المدن كافة لمدة أسبوع، فيما نظّم الجيش العراقي وسلاح الجو، استعراضًا عسكريًا في ساحة نصب "الجندي المجهول" وسط بغداد، بحضور العبادي ووزراء وقادة الأمن وأعضاء من البرلمان وممثلي البعثات الدبلوماسية. محاربة الفساد إعلان النصر النهائي على داعش فتح الطريق أمام مرحلة جديدة ومعركة مختلفة، إذ أعلن العبادي، أن المعركة المقبلة ستكون ضد الفساد المستشري في البلاد، موضحًا أن محاربة الفساد ستكون امتدادًا طبيعيًا لعمليات التحرير، وتضمن كلام العبادي رسائل مهمة لقراءة طبيعة مرحلة ما بعد داعش، فقد أشار إلى أن حصر السلاح بيد الدولة وسيادة القانون واحترامه هما السبيل لبناء الدولة وتحقيق العدالة والمساواة والاستقرار، ودعا السياسيين إلى "الامتناع عن العودة إلى الخطاب التحريضي والطائفي الذي كان سببًا رئيسيًا في المآسي الإنسانية وفي تمكين عصابة داعش من احتلال المدن وتخريبها". أزمة كردستان طالما كانت أزمة كردستان بركانًا عراقيًا ينتظر المسؤولون ثورانه في أي وقت، لكنه اختار أن يثور بشكل مدمر في سبتمبر الماضي، وذلك بعد أن أعلن رئيس الإقليم مسعود بارزاني، عن تنظيم استفتاء في إقليم كردستان للانفصال نهائيًا عن الدولة، فيما جاء تعامل الحكومة العراقية مع الأزمة ليدهش العديد من السياسيين، ويفوت الفرصة على المتربصين الذين طالما انتظروا الفرصة للتدخل في الشأن الداخلي للعراق وتعزيز تفككه. وعلى الرغم من خطورته، نجح العبادي في ردع الطموح الكردي في الانفصال، وتعامل ووزراؤه مع الاستفتاء بحكمة وعقلانية، فكان الدستور هو الحاكم بين الطرفين، الحكومة المركزية وقيادة الإقليم، ومع تزايد الضغوط على الإقليم خارجيًا من ناحية تركياوإيران، وداخليًا من ناحية الحكومة والبرلمان العراقيين، انطفأت سريعًا النيران التي اشتعلت في الإقليم وما لبثت أن انتقلت إلى مدن إستراتيجية مجاورة أبرزها كركوك، ليتم وأد حلم الانفصال الكردي من مهده ويعلن الإقليم مؤخرًا رغبته في الحوار مع بغداد. التوازن الخارجي نجح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في تحقيق قدر كبير من التوازن السياسي من خلال لباقة دبلوماسية واتباع سياسة النأي بالنفس في العديد من الأزمات والملفات الشائكة، وتجنب الانخراط في خصومات مع الكتل السياسية الداخلية أو القوى الإقليمية الخارجية، حيث حاولت المملكة العربية السعودية مرارًا جذبه إلى صفوفها لمواجهة إيران من خلال محاولات ابتزاز، سياسيًا تارة ومغازلات اقتصادية وعسكرية تارة أخرى، لكن العبادي تمكن من تحقيق التوازن في العلاقات وحرص على تبادل الزيارات واللقاءات مع مسؤولي كلا البلدين. السعودية وإيران لم تكونا طرفي المغناطيس الوحيدين، حيث شكّل التحالف الدولي بقيادة أمريكا وقوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، أزمة أخرى حاولت الحكومة التعامل معها خلال المعارك في الأراضي العراقية، وتمكن رئيس الوزراء العراقي من توظيف إمكانيات كلا القوتين العسكريتين لتصب في النهاية في صالح عمليات تحرير الأراضي العراقية، وفي الوقت نفسه دخلت قوات "البيشمركة" المعادية للحشد الشعبي على خط معارك التحرير، الأمر الذي أثقل كاهل القوات المسلحة والحكومة التي باتت تحمل مسؤولية إمساك العصا من المنتصف بين القوات الثلاثة. خطاب النصر الذي ألقاه العبادي، السبت الماضي، أثار غضب قوات البيشمركة، وهو ما ظهر في امتناع إقليم كردستان عن المشاركة في أي مظاهر احتفالية بإعلان النصر من بغداد، وسط انتقادات من بعض مسؤوليه وسياسييه لعدم ذكر العبادي إنجازات قوات "البيشمركة الكردية" في خطابه، وقال بيان مشترك لكتل الإقليم الكردية البرلمانية، وهي "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة التغيير" و"الاتحاد الإسلامي" و"الجماعة الإسلامية": لقد استمعنا باهتمام للعبادي وهو يتلو خطابًا نيابة عنا جميعًا واحتفاءً بنصر العراقيين على عصابات الإرهاب والإجرام، لكننا صُدمنا مرة أخرى بسلوك رئيس الوزراء وهو يذكر كل أطياف المنظومة الأمنية العراقية، عدا قوات البيشمركة، والتي هي جزء من منظومة وزارة الدفاع، ودعت الكتل إلى "تصحيح واعتذار عن هذا الموقف". من جانبه تدارك العبادي الأزمة سريعًا، وحرص قبيل مغادرته إلى العاصمة الفرنسية باريس لحضور قمة المناخ هناك، على الإشادة بدور البيشمركة باعتبارها "قوّة في إطار المنظومة العراقية، ودورها المحوري في مقارعة الإرهاب"، وأضاف العبادي أن "البيشمركة قاتلت إلى جانب الجيش العراقي وبقية قواتنا في تحرير الموصل"، مشددًا على أن "هناك من أراد أن يفرّق بين البيشمركة والجيش العراقي من خلال الاستفتاء ومقاتلة الجيش، لكننا قلنا إن البيشمركة هي جزء من العراقيين وينبغي التعاون معها"، هذه التصريحات ساهمت بشكل كبير في نزع فتيل أزمة كانت قد أوشكت على الاندلاع وكان يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الانقسام في المجتمع العراقي. إشادة من باريس خلال مسيرة العبادي السياسية ومحاولاته لملمة شمل الدولة ودحر الإرهاب، حظي بالكثير من الدعم الدولي والإقليمي، وظهر الدعم جليًا في مؤتمر المناخ الذي عقد، أمس الثلاثاء، في العاصمة الفرنسية باريس، وحظي خلاله بإشادة ودعم غير مسبوقين، ظهرا جليًا خلال اللقاءات الثنائية على هامش القمة مع الزعماء الأوروبيين، حيث أجرى العبادي، سلسلة لقاءات ثنائية كان أبرزها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، ومدير البنك الدولي جيم يونغ جيم، فضلًا عن شخصيات سياسية ودولية أخرى. "القائد العالمي" هو الوصف الذي أطلقه الرئيس الفرنسي على حيدر العبادي، حيث أشاد ماكرون، في كلمته أمام رؤساء ووفود الدول المشاركة في المؤتمر، ب"قيادة العبادي في القضاء على داعش"، مبديًا إعجابه وتهانيه بالانتصارات الكبيرة التي حققها العراق على الإرهاب، وشدّد ماكرون، على أهمية الوقوف مع العراق وتقويته للاستمرار في مرحلة ما بعد داعش، داعيًا رؤساء الوفود الحاضرين إلى الترحيب بالعبادي بوصفه "قائدًا عالميًا". الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش، أشاد أيضًا بالانتصار الذي حققته القوات المسلحة العراقية على الإرهاب وتنظيم داعش، وأكد وقوف الأممالمتحدة مع العراق في إعادة الإعمار، واستقراره بعد إعلان النصر على داعش، وفي الوقت نفسه أبدى مدير البنك الدولي جيم يونغ كيم، استعداده لدعم الاقتصاد العراقي، وعملية الإصلاح التي تقودها الحكومة، والنجاح الكبير الذي حققته في هذا المجال، فيما هنأ الاتحاد الأوروبي أيضًا الشعب العراقي وحكومته على النصر ضد داعش، مؤيدا مكافحة الفساد استمرارًا لمحاربة داعش، والتزام الحكومة باحترام حقوق جميع العراقيين، بغض النظر عن أصلهم، أو هويتهم الدينية. تحديات جديدة الإنجازات الكثيرة التي حققتها الدولة العراقية بقيادة حيدر العبادي، لا تعني انتهاء الأزمات التي تواجه الدولة وتراكمت على مر سنوات وعقود ماضية، فالمرحلة القادمة محملة بالملفات السياسية والأمنية التي ستفرض تحديات جديدة أمام العبادي، أبرزها الأزمة الاقتصادية الناتجة عن التكلفة الباهظة للحرب ضد الإرهاب، إضافة إلى طريقة التعامل مع الأزمة السياسية الكردية، ومستقبل العراق بعد تحريره من قبضة داعش، فضلا عن معارك إخراج القوى الأجنبية من أراضيها وأبرزها الأمريكية والتركية، وهي الملفات التي ستكشف مدى قدرة "العبادي" على إدارة الأزمات، خاصة بعد أن علق عليه العراقيون الكثير من الآمال، وبات البعض يصفه بأنه "رجل المهمات الصعبة".