ليست الأحداث وحدها هي التي تبقى في ذاكرة الشعوب، تلك الشعوب التي لا تتذكر صوت أعدائها، بل تتألم لصمت أصدقائها، وإذا كانت السياسة فن السفالة الأنيق، فالدبلوماسية فن الثعابين، لذلك ليس كل ما في خاطر الدبلوماسي يُقال، فإن أصعب المراحل التي تقع على كاهله هي صياغة النص. حينها يصبح خاطره في عالم الأفكار على ورق قابل للنقاش والحفظ والتأويل، ويبقى إثبات ضده، إذ كان مثل بلفور شريكاً في مثل هذه الجريمة الإنسانية الكبرى، التي مازال يئنّ منها الشعب الفلسطيني، من وعده للحركة الصهيونية. مئة عام على رسالة آرثر جيمس بلفور الى صديقه الصهيوني المصرفي اللورد روتشيلد، يُعلن من خلالها تعاطفه وتعاطف المملكة المتحدة مع اليهود في مساعيهم لقيام دولة لهم في فلسطين، لكن مع الحذر في استخدام الألفاظ واستخدام كلمات قريبة من الضمانات، وليست ضمانات بعينها، حتى لا تكون المملكة المتحدة شريكة في جريمة استبدال شعب بآخر، وقيام دولة أبارتهايد وظيفية كما كان يحلم نابليون في كنف إمبراطورتيه الفرنسية. كلمة (وعد) المتعارف عليها باللغة الانجليزية (Promise)تم استبدلها بكلمة (declaration) أي بمعنى إعلان لما يقابلها باللغة العربية، و تفسر بلغة السياسة أن المملكة ستسعى لتحقيق هدف إقامة كيان صهيوني، وإذا لم يتحقق؛ فليست هناك ضمان حقيقة للوعد، ويكون الأمر سهل للتملص في حالة انقلبت موازين القوى في الحرب العالمية الأولي الدائرة آنذاك، لذلك لا يُمكن تفسير الأحداث التاريخية والنصوص إلا بزمنها وبالظواهر المحيطة بها، فالمملكة المتحدة كانت تسعى في فترة الحرب للحفاظ على موازين قوتها ومصلحتها للفوز بالحرب ضد دول المركز، أيضا كانت على اتفاق مع العرب بما يُعرف بمراسلات حسين-مكمهون للخروج ضد الدولة العثمانية ومناهضة حكمها، وصولاً للثورة إبان الحرب الاولي، مما يُضعف الشريك القوي المتحالف مع الإمبراطورية الألمانية ضد الحلفاء، كذلك بريطانيا كانت تحتاج للدعم المالي واللوجستي المتوفر بوفرة بيد يهود أوروبا، تجارة الذهب والعملة وخصوصاً عائلة روتشيلد اليهودية المشهورة، فكيف كانت ستجمع بين النقيضين لولا هذا الاتفاق المبهم مع المال اليهودي و الثورة العربية؟ مُنيت العرب بخيبة أمل بعدما كشفت الثورة البلشفية في روسيا الإتفاق السري لتوزيع مناطق النفوذ بين فرنساوبريطانيا، ما يُعرف بسايكس بيكو، وعلى إثره تقسّمت البلدان العربية، فكيف ستتعامل بريطانيا مع العرب لو أنها أعلنت رسمياً انها نوي قيام دولة لليهود في فلسطين؟. ربما كان هذا الاعلان الصريح سيحدث تغييراً على قواعد اللعبة وموازين القوة، وكيف لو أن بريطانيا أيضا لم تُطمِّع اليهود بأنها تسعى قدُماً لتحقيق حلمها بتأسيس وطن قومي لهم، وكما يوضّح الكاتب والمفكر محمد حسنين هيكل عن الظروف المواتية لإصدار وعد بلفور: "لعل أهم ما يُمكن ملاحظته في الظروف المتّصلة بصدور«وعد بلفور»، هوما تقول به وثيقة بريطانية تحوي محضر جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 3 ايلول سبتمبر 1917، أثناء مناقشات صدور «وعد بلفور»، وفي التمهيد لإعلانه، وقد ورد في محضر الجلسة أن وزير الحربية إيرل ديربي، أبلغ المجلس أن وفداً يهوديا على مستوى عالٍ يمثل المؤتمر الصهيوني، توجّه لمقابلته وعرض عليه رغبة يهود العالم في مشاركة الحلفاء في تضحية الدم، وذلك بتشكيل قوة من اليهود يُطلق عليها إسم «الفيلق اليهودي»، حتى تحارب في صفوف الحلفاء، ومن ثم يكون لهم دور في تحقيق النصر". هذه الوثيقة لم تأخذ أي طابع رسمي أو تحمل أي توقيع ملكي أو حتى موافقة أعضاء المجلس الوزاري أو الكشف عن حيثيات الاجتماع، يختم الجاني الذي سيبذل قصارى جهده لتحقيق الغاية قائلاً:"على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى". ما فتح الباب أمام بريطانيا لدورها الخبيث، للاستمرار بكذبها بإصدارها الكتاب الأبيض عام 1939، أي إبان الحرب العالمية الثانية، وسقوط فرنسا واحتلال ألمانيا لمساحات واسعة من أوروبا ومطالبة بعض الدولة المستعمرة من قبل القوات البريطانية بالاستقلال واشتعال الثورة الفلسطينية الكبرى وخسائر الإنتداب في فلسطين بسبب ذلك، وازدياد الهجرة اليهودية أيضا الي فلسطين. اعتمدت بريطانيا حتى في إنهاء انتدابها على فلسطين الكذب والتملص من وعدها، وهي تُعتبر شريك أساسي في هذه الجريمة النكراء، وهي العمود الفقري للاحتلال، وبذلك تتحمل كامل المسؤولية عن ما ارتكبه هذا الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. كاتب فلسطيني