نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تحليلا كتبه أستاذ الدراسات الدولية بجامعة بيبرداين الأمريكية، فيليسيتي فابولاس، يتناول فيه قرار الولاياتالمتحدة الأخير بشأن الانسحاب من منظمة اليونسكو. وأشار فابولاس إلى أنه من خلال البحث في جميع الانسحابات الأمريكية من المنظمات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، يتضح أن الولاياتالمتحدة تستخدم المنظمات الدولية وقرار الانسحاب كأداة لفرض سياستها الخارجية. وإليكم نص المقال: في 12 أكتوبر، أعلنت إدارة دونالد ترامب أن الولاياتالمتحدة ستنسحب من اليونسكو – منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة التي تأسست في عام 1945، وربما جاءت شهرة المنظمة الأكبر من اهتمامها بالتراث العالمي. ماذا يعني الانسحاب الأمريكي؟ تبين البحوث في العلاقات الدولية أن الانسحاب من اليونسكو ليس مجرد قرار عملي مع تداعيات شكلية. ولأن هذا الخروج أحادي الجانب يضاف إلى نمط ترامب المتمثل في مغادرة المنظمات الدولية، فإن قرار مغادرة اليونسكو له عواقب استراتيجية أوسع. ترامب ليس أول رئيس يغادر اليونسكو: في عام 1984، غادرت إدارة رونالد ريجان اليونسكو، مدعية أنه لديها عادات إنفاق مسرفة وميول سوفياتية. وعادت إليها الولاياتالمتحدة مرة أخرى في عام 2002 كجزء من جهود إدارة جورج بوش لتوسيع التعاون الدولي الأمريكي. كما ابتعد الرؤساء الديمقراطيون عن اليونسكو. حيث في عام 2011، سحبت إدارة أوباما التمويل الأمريكي للمنظمة لثني الأممالمتحدة عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما منحت اليونسكو السلطة الفلسطينية العضوية الكاملة. ولكن حافظت على عضوية الولاياتالمتحدة. وقد اتخذت إدارة ترامب خطوة أخرى في سحب عضويتها في اليونسكو، التي ستصبح سارية اعتبارا من ديسمبر 2018. يشير مسؤولو وزارة الخارجية إلى التحيز ضد إسرائيل والشواغل المالية. جاءت خطوة ترامب بعد أن اعتبرت اليونسكو مدينة الخليل القديمة في الضفة الغربية، بما في ذلك مقبرة باب الرحمة، أحد مواقع التراث العالمي الفلسطيني. عقيدة ترامب في الابتعاد عن المنظمات الدولية: على الرغم من كل تاريخ الولاياتالمتحدة مع اليونسكو، إلا أن قرار ترامب بسحب عضوية الولاياتالمتحدة هو أكثر جذرية من قرار أوباما عام 2011 بسحب الأموال الأمريكية. يبرز انسحاب اليونسكو لأنه يناسب نمط ترامب المتمثل في ترك المؤسسات الدولية. خلال الأشهر القليلة الأولى من رئاسته، انسحبت إدارة ترامب من اتفاق الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ واتفاقية المناخ في باريس. وهدد ترامب أيضا بالانسحاب من عدد من الاتفاقيات الأخرى بما فيها حلف الناتو وخطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني إذا لم توافق الأطراف الأخرى على التوصل إلى اتفاق أفضل مع الولاياتالمتحدة. ووصف ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، هذا النمط، ب "عقيدة الانسحاب الترامبية". هذا العدد الهائل من الانسحابات ( والانسحابات المحتملة) – فضلا عن الطبيعة الواسعة لهذه التحركات – تبرز في السياق التاريخي، حيث ليس من المألوف للدول أن تغادر المنظمات الدولية واحدة تلو الأخرى بشكل أحادي الجانب. هناك سبب لذلك. تعمل هذه المؤسسات على تعزيز الاستقرار العالمي وأنشئت للوقوف أمام اختبار الزمن، وهي تشمل عقودا من الاجتماعات الدبلوماسية للتوصل إلى حلول تفاوضية؛ ولديهم آليات مرنة لمساعدة الدول على التكيف دون المغادرة. ومع ذلك، يظهر التاريخ أيضا أن قادة الدول قد يستخدمون ورقة "الانسحاب" كأداة لسياستهم الخارجية في مناسبات متعددة. من خلال البحث في جميع عمليات الانسحاب من المنظمات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، يظهر أن الولاياتالمتحدة هي الأكثر تواترا في هذه الأندية، وغالبا بسبب التسييس. انسحبت الولاياتالمتحدة من الأنتربول بين 1950- 1958؛ ومن منظمة العمل الدولية بين 1977- 1980؛ ومن المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002. في العديد من النواحي، ليس من المستغرب أن يكون عدد عمليات الانسحاب الأمريكية من المنظمات الدولية أكبر من الدول الأخرى. وهذا ينبع من أن الولاياتالمتحدة عضو في عدد كبير من المنظمات الدولية. وعلاوة على ذلك، يمكن القول إنه باعتبارها قوة عظمى، لديها أفضل الخيارات الخارجية – بما في ذلك العمل من جانب واحد أو العمل من خلال مؤسسات أخرى متعددة الأطراف. لكن كل هذه الانسحابات من المنظمات الدولية مسألة مهمة: ماذا قد يحدث بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من اليونسكو؟ من شأن نهج قصير النظر أن يجادل بأنه لا شي كبير. فعلى مر السنين، تعرضت اليونسكو لكثير من الانتقادات بشأن الفساد وعدم الكفاءة.ولكن الانسحاب من المنظمات الدولية يمكن أن يكون مكلفا بخمس طرق على الأقل: 1) فقدان السمعة – عندما يتراجع زعيم عن التزام دولي، فإنه يقوض مصداقية الأمة وبالتالي سمعتها. ويمكن أن تترجم آثار هذه السمعة إلى استياء وعدم موافقة من قبل الناخبين في البلاد. وقد يؤدي التراجع عن الالتزامات الدولية أيضا إلى جعل الشركاء الدوليين مترددين في التفاوض بشأن اتفاقات مستقبلية. 2) تضاؤل القدرة على القيادة – المنظمات الدولية توفر للدول ساحة هامة لممارسة القوة الناعمة. ببساطة، بدون دور العضوية في اليونسكو، هناك فرصة أقل لتقاسم الأفكار والمعايير التي تسعى الولاياتالمتحدة لنشرها في جميع أنحاء العالم. 3) الحد من إمكانات الربط بين القضايا – تلعب المنظمات الدولية دورا هاما من خلال السماح للدول "بربط القضايا" معا، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع مساحات الصفقات بين الدول. وبانسحابها من اليونسكو، تفقد الولاياتالمتحدة ساحة يمكن أن تكون ذات قيمة للمساومة – ليس بالضرورة من أجل فقط قضايا مثل التعليم والثقافة. 4) تداعيات سوقية على المدى الطويل – في بعض الأحيان، الانسحاب من المنظمات الدولية يولد تكاليف اقتصادية. على وجه التحديد، ينظر المحللون الدوليون إلى الانسحابات كإشارة لتقليل مصداقية الدولة. وهذا يترجم إلى تفاقم درجات المخاطر السياسية، التي يمكن أن تلقي بظلالها على انخفاض الاستثمارات الدولية. 5) احتمال العدوى، الانسحاب من اليونسكو يمكن أن يكون له آثار معدية. إن النمط الأمريكي الأخير للانسحاب من المشاركة العالمية يشكل سابقة يمكن أن تجعل دول أخرى تفكر بشأن الانسحاب كأمر معتاد. ولعل من غير المستغرب أن تتبع إسرائيل انسحاب الولاياتالمتحدة من اليونسكو. ولكن يبدو أيضا أن بلدانا أخرى تخرج من المنظمات الدولية. في سبتمبر، على سبيل المثال، أعلنت نيجيريا أنها انسحبت من 90 منظمة دولية. ومن غير المرجح أن يبدأ انسحاب الولاياتالمتحدة من اليونسكو تأثير الدومينو، ولكنه كتتويجا لعمليات انسحاب متعددة قد يساعد على خلق نقطة تحول لمزيد من التراجع من النظام العالمي. ومن المؤكد أن كثيرا من هذه التكاليف يصعب تحديدها كميا. ولكن على الرغم من أن اليونسكو قد لا تهم بهذا القدر بمفردها، فإن نمط الانسحاب والتأثير التراكمي لهذه التكاليف هو ما يهم. المصدر