جبرتي الدراما المصرية بل والعربية، كاتب من طراز رفيع، باحث ومؤرخ يغوص في أعماق التاريخ ليستخرج منه القصص والحواديت المعاصرة المليئة بالدروس والعبر، والإسقطات على العصر الحالي، إنه العبقري محفوظ عبد الرحمن، الذي غيبه الموت أمس عن عمر ناهز 76 عامًا، إثر جلطة دماغية تعرض لها منذ أسابيع نقل بعدها إلى المستشفى للعلاج. صاحب الروائع والسير الذاتية التي تناولها بحرفية وموضوعية، فمن منا ينسى أم كلثوم، الزير السالم، سليمان الحلبي، ليلة سقوط غرناطة، حليم، بوابة الحلواني، وغيرها. تخرج الراحل في جامعة القاهرة عام 1960، وعمل بعدها في مؤسسة دار الهلال، وانتقل للعمل بوزارة الثقافة، وكتب خلال هذه الفترة في العديد من الدوريات الصحفية، منها الآداب، المساء، الجمهورية، الأهرام، البيان الإماراتية، العربي. نشرت له مجموعة من الأعمال الأدبية، منها البحث عن المجهول، أربعة فصول شتاء، اليوم الثامن، كما كتب للسينما أفلام «القادسية، ناصر 56، حليم»، ووصل عدد الأعمال الدرامية التي كتبها إلى 35 عملًا، وكتب للمسرح عددًا من الأعمال الخالدة مثل «حفلة على خازوق والسندباد البحري والحامي والحرامي وعريس لبنت السلطان وبلقيس وليلة من ألف ليلة وليلة»، ومنحته الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما رئاستها الفخرية، كما تم تكريمه من عدة جهات سينمائية ومسرحية. يقول المخرج محمد فاضل: محفوظ عبد الرحمن كاتب من طراز رفيع، وقبل أن يكون مؤلفًا للسينما أو التليفزيون فهو رجل مثقف وصاحب رؤية ثاقبة في قراءة أحداث التاريخ، مضيفا ل«البديل» أن هذه الثقافة جعلته مميزًا عند الكتابة للمسرح والفيديو، حتى كتب أحد روائعه فيلم ناصر 56. وعن تعاونه مع الكاتب الراحل في فيلم ناصر 56، أوضح فاضل: كان دقيقًا وحريصًا على التحضير وكتابة سيناريو الفيلم ومراجعة تفاصيله وأحداثه كافة بعناية، وهو ما جعلنا نستغرق عامًا من التحضير، وهذه صفات الكاتب المبدع وليس الكاتب المحترف الذي ينجز كتابة العمل في وقت قليل. ويكشف المخرج محمد فاضل لأول مرة حكاية فيلم ناصر، موضحًا أن المشروع كان مسلسلًا تليفزيونيًّا وليس فيلمًا، وكان عبارة عن حلقات منفصلة يقدم فيها النجم الراحل أحمد زكي شخصية وطنية مصرية من التاريخ المصري؛ مثل أحمد عرابي، عبد الله النديم، أحمد عرابي، لكن عندما قرأت شخصية عبد الناصر اقترحت تقديمها من خلال فيلم سينمائي، وبالفعل وافق محفوظ عبد الرحمن وقام بكتابة جديدة لسيناريو فيلم ناصر 56 الذي حقق نجاحًا كبيرًا. ويرى عاطف بشاي، السيناريست والمؤلف، أنه أحد الرواد الكبار في فن كتابة السيناريو للشاشة الصغيرة، وله تاريخ إبداعي طويل، بدأه كاتبًا للمسرح ثم التليفزيون وإلاذاعة والسينما. وأضاف ل«البديل» أن عبد الرحمن كاتب متميز يستلهم التاريخ والتراث في مؤلفاته بشكل عصري وجيد، حيث يستخلص منه العبر والإسقاطات العصرية، ويمزجها بالأحداث الدرامية لتجسدها شخصيات من لحم ودم، ولا أحد ينسى رائعته بوابة الحلواني وليلة سقوط غرناطة وغيرها. وأوضح أن عبد الرحمن كان بليغ العبارة جميل البيان نظرًا لانحداره من أصول أدبية، وهذا هو الفارق ببن ما يمثله جيله والجيل الحالي من الشباب في الكتابة، فهو لم يسقط على المجال الفني من فراغ، بل عمل مثل أبناء جيله في الشعر والمسرح، مضيفًا أنه ترك بصمة مميزة في كتابة السيرة الذاتية لموهبته في الكتابة وإتقان اللغة العربية وتعمقه في قراءة التاريخ، لذا انعكس ذلك على الأعمال المهمة التي قدمها؛ فمثلًا في مسلسل أم كلثوم نجح في تلخيص القرن العشرين بشخصية تعبر عنه، ومن قبلها أعمال مثل سليمان الحلبي، الزير السالم، أهل الهوى عن بيرم التونسي، حليم وناصر 56. وذكر بشاي أن رحيل عبد الرحمن يعتبر خسارة فادحة للوسط الأدبي، وبوفاته يغيب جيل بأكمله يدرك أن الكتابة فن وموهبة وليست صنعة، مثلما يحدث الآن من جيل ينتح العمل الفني من خلال ورش تضم عدة أفراد لكتابة السيناريو، يفتقرون للثقافة والمعرفة والموهبة، وتحولوا لمجموعة صنايعية وليسوا مبدعين. واختتم بأن موت محفوظ عبد الرحمن إعلان عن إسدال الستار على جيل كامل من المبدعين الكبار اختفى بالموت أو بغيره مثل أسامة نور عكاشة ويسرى الجندي ومحمد جلال عبد القوي. ويقول الدكتور وليد سيف، رئيس قسم النقد السينمائي بأكاديمية الفنون: الكاتب محفوظ عبد الرحمن صاحب الموهبة المتقدة الناضجة منذ بداياته يشكل مع الراحلين محسن زايد وأسامة أنور عكاشة ثلاثي الإبداع الدرامي الذي أمتع الجماهير العربية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وأضاف ل«البديل» أن الكتابة المسرحية أثقلت محفوظ فى بداياته، فالمسرح أبو الفنون، ولهذا كان ظهوره القوي في الدراما التليفزيونية مستندًا على خبرة وحلفية علمية عميقة بالدراما، ورغم قلة كتابته للسينما إلَّا أن فيلمه ناصر 56 من أهم علامات السينما. وأشار سيف إلى براعة محفوظ في الدراما التاريخية عمومًا، والتي تألق فيها قلم محفوظ نتيجة لإدراكه الواعي؛ لأن العودة للتاريخ لا تعني سوى النظر للمستقبل، كما أن الالتزام بالوفاء والشخصيات التاريخية مهمة كتاب التاريخ وليس الدراما، ولهذا كان بإمكانه أن يختلق مواقف وشخصيات درامية في أحداثه لتكون أقوى تأثيرًا وأكثر تعبيرًا عن الواقع.