بعنوان "الفوضى والنظام في عالم متغير" قدّم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق والمستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي وأحد أبرز صناع السياسة الاستعمارية الغربية، مذكرة إلى (مؤتمر مارجريت تاتشر للأمن) التابع لمركز دراسات السياسة البريطاني والذي انعقد في يونيو الماضي، حيث جاءت المذكرة تعبيرا عن رؤية السياسي والدبلوماسي الأمريكي المخضرم البالغ من العمر سبعين عاما والذي يمكن القول أنه ساهم في تشكيل ما يُسمى ب"النظام العالمي الجديد"، بأدواره الحيوية في رسم السياسات الأمريكية خلال فترة ما قبل أواخر الستينيات إلى بعد أواخر السبعينيات بتوليه العديد من الملفات بالغة الأهمية، جاء "الشرق" سواء الأوسط أو الأقصى، أي روسيا والصين، على قمتها ومن ثم في صميم اختصاصاته. في سياق عالمي وشرق أوسطي ملتهب وآخذ في التعقّد خلال السنوات العشر الماضية يمكن قراءة فصل الشرق الأوسط من مذكرة كيسنجر في عنوانين رئيسيين: 1- إهتزاز معادلة سايكس بيكو وأهمية إعادة تثبيتها يقول كيسنجر "في الشرق الأوسط تسود تهديدات بالفوضى والتحلل وفقدت 4 دول هناك سيادتها هي سوريا والعراق وليبيا واليمن نتيجة لوجود "فصائل" ساعية لفرض حكمها، ومن الواضح أن النظام الذي تم وضعه في نهاية الحرب العالمية الأولى للشرق الأوسط أصبح هباءً، مؤكدا أن الشرق الأوسط يؤثر على العالم بفعل "حركية" أيديولوجياته بالإضافة إلى عوامل أخرى، وفي إطار حديثه السابق، أيضا طرح كيسنجر خطر داعش من زاوية أمريكية مرسومة بدقة حيث قال إنها "جيش عدو للحضارة الحديثة يسعى بالعنف إلى نفي تعددية الدول في النظام الدولي وإقامة إمبراطورية إسلامية وحيدة"، وقال في سياق المقارنة بين موقف أمريكاوروسيا من المنطقة أنه "بالنسبة للغرب فهو أمام اختبار حاسم، يجب أن يهدف عمله ودعمه لأطراف في المنطقة إلى "الإستقرار" في مواجهة أي قوى أو أطراف تعتبر أكثر تهديدا للاستقرار، وعلى حسابات الغرب أن تكون على المدى الطويل وليست ناتجة عن المتطلبات التكتيكية اللحظية قصيرة الأمد. لا يمكن فصل تلك الرؤية عن نظرة كيسنجر الدائمة، بحكم تعبيره عن المصالح الأمريكية، حول جوهرية الهيمنة الأمريكية المستقرة على النقاط الاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم، والمفاعيل العملية لتلك النظرة باستخدام مزيج من القوة الاقتصادية والأمنية الاستخبارية والعسكرية والأيديولوجية، في هذا الإطار جاء استدراج دول الخليج النفطية لشراء الأسلحة من أمريكا، بعد ارتفاع أسعار النفط وتعاظم الفوائض المالية لدى تلك الدول، واستخدام ما تيسر من التناقضات والتآلفات المذهبية بين نظم وشعوب الشرق الأوسط كما حدث بعد نجاح الثورة الإيرانية والدعم الأمريكي لقيام استقطاب عراقي خليجي إيراني، وفي الفترة الحالية وفقا لكيسنجر، فالأزمة الحالية في الشرق الأوسط هي، فقط، وجود داعش وبعض الأيديولوجيات القائمة في الشرق الأوسط والمتمردة على النظام المستقر الذي يصب في صالح دول المنطقة، ومن المطلوب إما تثبيت واقع النظام العالمي الأمريكي حيث "الاستقرار" أي إخضاع الجميع في المنطقة بمناسبة قيام داعش وآثاره أو إقامة شكل مختلف من التقسيم يستوعب ما قد استجد ويوفر استقرارا جديدا، وبطبيعة الحال لا يمكن فصل كامل هذا السياق عن الاستراتيجية الأمريكية المعهودة بخلق أو المساهمة في خلق الأزمات الكبرى ثم فرض أوضاع تصب في المصلحة الأمريكية. 2- عدو عدوي ليس صديقي – أولوية مواجهة إيرانوروسيا يقول كيسنجر "في هذه الظروف – أي في الشرق الأوسط – فإن قاعدة عدو عدوي صديقي تصبح غير قابلة للتطبيق لأن عدوه قد يكون عدوي أيضا"، ويفصّل ذلك بالقول أنه "يمكن استخدام الحرب العالمية على داعش كمثال، أغلب القوى غير الداعشية بما فيها إيران والدول السنّية الكبيرة تتفق على الحاجة لتدمير داعش، لكن أي كيان سيحل محلها في المناطق التي تسيطر عليها؟ تحالف سنّي أم نفوذ إيراني؟ من العسير الإجابة على هذا السؤال لأن روسيا ودول الناتو يدعمون "فصائل" أخرى في مقابل داعش، وإذا حلت محل داعش قوات من الحرس الثوري الإيراني أو ممن درّبهم الحرس ستكون النتيجة حزام جغرافي يربط طهرانببيروت. وعن روسيا ومنافسة نفوذها للنفوذ الأمريكي يقول "الحكم الروسي محل اختبار الآن بخصوص من سيحل محل داعش في مناطقها، فإما سياسة متعاونة وبنّاءة مع الغرب أو إعادة سيرة الحرب الباردة"، وعن الغرب يقول "إذا ظل الغرب فاعلا في المسألة لكن دون خطة جيوستراتيجية ستنمو الفوضى في المنطقة أكثر فأكثر، وإذا انسحب بالفعل أو من حيث المبدأ – كما بدا طوال العقد الماضي – فالقوى الكبرى التي لا تحتمل الفوضى بالقرب من محيط حدودها كالصين والهند، ستخطو هي وروسيا تدريجيا إلى الشرق الأوسط لتحل محل الغرب، وسيسقط النموذج المعروف للسياسة العالمية في القرون الأخيرة". يبدو أن كيسنجر يطرح أهمية كبيرة لحلول فصائل الناتو، وفق قوله، محل داعش في المساحة الجغرافية التي تنسحب منها الأخيرة، وهو طرح على خُطى أحد مشاريعه السياسية السابقة، أي كيسنجر، وهو تجزئة الصراع السياسي في الشرق الأوسط والتحالفات المنخرطة فيه، تدريجيا، ثم تصفية بعض الجزئيات وتجميد البعض الآخر بشكل يبدو مرحليا، والاستناد على حلفاء أمريكا الموثوقين وعلى تقويض التحالفات المقابلة بتوفير هامش مكسب (لا يمس جوهر الصراع) لأحد أطراف تلك التحالفات، وصولا إلى حالة من الثبات على النمط الأمريكي حيث وضع متحكَم فيه أمريكيا بذراع اقتصادي وآخرعسكري رادع، بمعنى آخر يرى كيسنجر أن إجابة سؤال ما بعد داعش في الشرق الأوسط، بعد أن ساهمت أمريكا في صنع وتعظيم داعش أساسا، تكمن في أن تحل محل داعش قوى حليفة لأمريكا تحمل صفة "الإعتدال" أمريكيا رغم انتمائها بالكامل لنفس المنظومة الفكرية لداعش بل وتماسّها معها في البناء والهيكل التنظيمي أحيانا، لكن الأهم هو فرز تلك المنظومة إلى قوى تابعة لأمريكا مباشرة وأخرى ليست كذلك ثم العمل على تسييد التابع على غيره وتسليحه وتأمين وضعية مستقرة له، وبموازاة ذلك يتم التعامل مع المعسكر الآخر بتجزئته إلى إرهابي مساوي لداعش (الحرس الثوري وحزب الله وغيرهما) وفقا للمصالح الأمريكية، فأمريكا لا تحتمل وجود قوة حقيقية وذات نفوذ ممتد جغرافيا وغير حليفة لها في الشرق الأوسط، ثم إلى قوى تدعم "الإرهاب" في هذا المعسكر أي روسيا الحليفة لإيران والتي لا تمانع في تصاعد نفوذ الأخيرة، ووضعها أمام اختيار إما أن تتناغم مع الطرح الأمريكي بحلول إرهابيين من غير الدواعش محل داعش، أو أن تواجه حربا باردة بأبعاد متنوعة يحترفها الأمريكيون. في الملامح العامة لخطة جيوستراتيجية بعيدة المدى كتلك، جاء الدعم والتسليح الأمريكييَن للأكراد في شمال سوريا لترسيخ انسحاب الكتلة السكانية الكردية السورية من الصف الوطني السوري تحت شعار "محاربة داعش"، فيضمن الأكراد، الذين استضافوا 6 قواعد أمريكية على أرض سوريا بالفعل، وجودا عسكريا أمريكيا يكفل مواجهة الحزام الجغرافي لمحور المقاومة الممتد من طهران إلى بغداد ثم دمشق وصولا إلى بيروت، وفي ذات الإطار يتمتع الأكراد بعطايا ومكاسب أمريكية قد يوضَع مثلها كمغريات ومكافئات لأطراف أخرى من الصف الشيعي العراقي، لشق الصف العراقي الآخذ في التماسك، كما تم مع البعض من "سنّة سوريا" بتجنيدهم وتسليحهم تحت عنوان محاربة داعش والدولة السورية في آن واحد لضمان المصالح الأمريكية.