كان الحدث الأهم على الإطلاق في منطقة الشرق الأوسط عام 1995 هو إعلان «إسرائيل» عن تملكها قاعدة عسكرية عملاقة في جزيرة «دهلك» في إريتريا، لتنبه بذلك إلى تواجدها بشكل رسمي في مدخل البحر الأحمر وعلى مرمى البصر من السواحل اليمنية، وعلى مرمى بندقية من باب المندب، لكن أحدا لم يخبرنا وقتها نهائيا بأن ذلك كان الحدث الأهم!. الحكاية أنه منذ اللحظة التي قامت فيها العصابات الصهيونية باختطاف فلسطين عام 1948 والبحر الأحمر يؤرق مضاجعهم، فلم يتردد الصهاينة للحظة في مد حربهم، التي كان المفترض أن تظل داخل حدود فلسطين، إلى السيطرة على ميناء «أيله» التاريخي المسمى وقتها بأم الرشراش، والذي كان يخضع للسيادة المصرية، وتقيم فيه حامية مصرية هي التي اشتبكت وقتها مع الصهاينة. وبالرغم من نجاحهم في احتلال هذا الموقع المهم على ساحل البحر الأحمر إلا أن هذا الموقع بالفعل كان لا يساوي شيئا في ظل النفوذ المصري الكامل على خليج العقبة والسيادة العربية الخالصة على البحر الأحمر في ظل زعامة مصر للأمة العربية وقتها، بالإضافة طبعا كون قناة السويس مجرى ملاحي مصري خالص السيادة. ونتيجة لهذا الوضع تحول ميناء «إيلات» لحديقة ملاهي، لا تساوي شيئا في موازين القوى، وتلقى الصهاينة دروسا قاسية حين تم إغلاق مضيق تيران في وجه ملاحتهم قبيل حرب 67، وتعلم الصهاينة درسا مفاده أنه لكي يسودوا لابد لهم أن يكونوا هم «مصر»، وأن يتواجدوا حيث تواجد المصريون عبر تاريخهم، وأن يبسطوا نفوذهم أينما بسطت مصر نفوذها، وفي علاقة عكسية عجيبة تثير الاندهاش كانت مصر «كامب ديفيد» تنسحب من كل ميدان ليحل محلها الكيان الصهيوني. ربما لا يعلم الكثيرون أن المفتاح المصري لباب المندب والنفوذ في البحر الأحمر كان ومازال عبر التاريخ متمثلا في منطقة «شلاتين» أو بالأحرى في عائلات «البجا» التي تسكن جنوب الصحراء الشرقية، والتي هي جزء أصيل من شعب البجا التاريخي الضارب في القدم والممتد بعائلاته على ساحل البحر الأحمر، وصولا لجيبوتي وإريتريا، هذه العائلات لم تمثل لها الحدود المرسومة حديثا سوى معنى إداريا، ولم تمنعها أبدا عن التواصل فيما بينها. منذ عهد الفراعنة وحتى عهد قريب كانت مصر تتصل بالقرن الإفريقي وتبسط نفوذها على البحر الأحمر من خلال هذا الخط البشري الحضاري الممتد من شلاتين إلى بلاد بونت «جيبوتي والصومال» جنوبا، وحتى عهد قريب لم تغب ملامحه كانت الحامية المصرية متمركزة في مصوع بإريتريا توجه إنذارا لإمبراطور إثيوبيا وتتوعده إن فكر للحظة أن يقترب من منبع النيل. ولى هذا العهد وانسحبت مصر «كامب ديفيد» من كل مجالها التاريخي التي لم تخرج منه حتى في عصور ضعفها، واستقر الصهيوني للأسف الشديد في قلب البحر الأحمر على مقربة من سكان إريتريا وجيبوتي. واليوم من حقنا أن نتساءل إذا كانت مصر عبر تاريخها تواجدت في القرن الإفريقي انطلاقا من شلاتين فهل ينطلق الصهاينة في رحلة عكسية لعمق مصر ولمد نفوذهم إلى شعب تزداد بيننا وبينه القطيعة، لتسود سوء الإدارة ونغيب عن عمقنا الإفريقي الذي حافظ عليه أجدادنا عبر آلاف السنين حرصا على أمننا واستقرارنا. لقد تحدثنا كثيرا عن قوة الكنيسة المصرية الناعمة وكيف يمكن استخدامها في إثيوبيا! فهل فكرنا في لحظة تاريخية حاسمة كالتي نمر بها اليوم أن نستخدم رصيد المحبة والثقافة وتاريخ ضارب في القدم في احتضان ذلك الشعب القاطن على سواحل البحر الأحمر، والذي يتوق شوقا لرؤيتنا ويذوب في حبا في أزهرنا، ويحمل عددا منه جنسية بلادنا. هل فكرنا أنه من الممكن في غضون سنوات قليلة من الصدق والاحترام والتواصل الذكي أن يصبح هذا الشعب نسيجا واحدا معنا، وهو الأقرب لنا حضاريا وعرقيا. هل استفقنا حين علمنا أن دويلة ك «قطر» تمارس دورا لا يمكن وصفه إلا بالمهم في هذه المنطقة، وأنها كانت لفترة طويلة وسيطا سياسيا بين جيبوتي وإريتريا؟! (متى وصلت هناك؟!)، هل استفقنا حين علمنا أن الإمارات تسعى اليوم لمد نفوذها إلى سواحل لا توصف تاريخيا إلا أنها امتداد لحضارة النيل العظيمة.. أم لم نستفق بعد، لنستمر في الحديث عن ضرب سد النهضة أو إرسال وفودا شعبية لإثيوبيا لنذكرهم بأننا وهم كنا يوم نتبع كنيسة واحدة؟! في الحقيقة لا أظن أن عنجهية عجيبة وغريبة أصرت على تسليم جزيرة تيران والتخلي عن نفوذ مصر المطلق على الملاحة في خليج العقبة قد تفكر في كيفية تحويل العبابدة والبشارية وأهالي شلاتين لسفراء نفوذ ومراكز قوة، ولا أظن أن عنجهية ترفض حتى اليوم عودة النوبة القديمة على ضفاف بحيرة ناصر من الممكن أن تحدث تغييرا جذريا في الملف الإفريقي. لا أظن أنه حين يقف نتنياهو خطيبا مفوها في المحافل الإفريقية ويقوم بتوسيع نفوذ بلده في البحر الأحمر عبر التواجد في جزر جديدة غير دهلك، وأنه حين نجد الصهاينة يحضرون القمم الإفريقية ويغرسون وجودهم في قلب عمق بلادنا يكون الرد المناسب إنشاء أكبر قاعدة عسكرية في «غرب مصر على الحدود الليبية بحضور خليجي»! هذا بكل تأكيد لا يعني أننا قد استفقنا أو أننا نتملك أي عقل استراتيجي يسعى جديا لإنقاذ هذا الوطن من طوفان قادم!.