"بعضُ الأمور قدر، لا ينفع تغييرها". إنريكو فيرمي، عالم نووي إيطالي ومخترع أوّل مفاعل نووي في العالم. أن تكون فلسطينيًا يكاد يكون أمرا كارثيا هذه الأيّام. فالقضية المركزية للعرب والمسلمين أنفسهم باتت اليوم أقل من قضيةٍ هامشية (راجعوا ترتيب الخبر الفلسطيني في محطات التلفزة الإخبارية العبر عربية وغيرها)، كما بات الحديث فيها لزوما لما لا يلزم. باختصار لا يمكن اعتبار الانتماء لفلسطين اليوم إلا "إضاعة" للوقت كما يشير "مثقفون" كثر هذه الأيّام. للأمر مأساته حقا: أبناء الجلدة عينها، أي الفلسطينين أنفسهم، تم جرّهم إلى صراعات لا تمت لجوهر الصراع الأصلي بصلة؛ التنظيمات الإسلامية جرّت الجميع في لحظةٍ ما إلى صراعات لا يفهم منها شيء. فالفلسطيني في حياته كلّها لم يكن "طائفيا" أو "قريبا من طائفةٍ على حساب أخرى"، كان الفلسطيني جامعا للجميع. كان الفلسطيني يباهي أنّه يجمع بين الجيش الأحمر الياباني وثوار الباسك الانفصاليين، كان كل هؤلاء ينظرون بعين "التقديس" للقضية الفلسطينية لأنَّها كانت آنذاك هدفا ساميا. التنظيمات العلمانية واليسارية فرغت تماما من اليسار كما من العناصر الشابة بشكل كلّي ونهائي، بالتالي كيف يمكن الحديث عن "الشعب" وهذا التنظيم "اليساري الشعبي" لا يمتلك "شعبا" و"شبابا" للحديث عنهم وبشأنهم وباسمهم؟ التنظيمات الأكثر مراسا وقوةً في الشارع -حتى اللحظة- والتي انتمت للسلطة والنظام وأصبحت قوته وروحه لا تأبه لرأي أحد، وتتصرف كما لو أنّها الوريث الشرعي الوحيد للفلسطيني؛ فيما الفلسطيني في مكانٍ آخر وجهةٍ أخرى. في ذات الإطار مرةً أخرى بلغت نسبة التسرّب المدرسي في الوسط الفلسطيني حدا لم يكن أحدٌ يحلم بحصوله أكثر من 60 بالمئة. تخفي المدارس الفلسطينية (الأونروا) هذه الأرقام، وتحاول التعامل معها على أساس أنها "لا تحدث" لكن الذي يعيش داخل الوسط عينه، يمكنه إدراك الأمر المخيف، إذ تكفي الإشارة إلى أنَّ واحدا من أكبر المخيّمات الفلسطينية في لبنان ليس فيه أكثر من 3 بالمئة طلابا جامعيين (في الوقت الذي كانت سابقا تبلغ أكثر من 70 بالمئة مثلا بين فئات الشباب). يضاف إلى هذا كلّه مشاكل متعددة لناحية المخدرات والأمن والاكتظاظ السكاني داخل المخيّمات عينها. كلها أمورٌ باتت ترخي بثقلها الخانق على الفلسطيني وقضيته قبل أي شيء.
على الجانب الآخر؛ يرى أكثر من 80 بالمئة من المجتمع قضيتك وصراعك مع الصهاينة أمرا منتهِي الصلاحية، أي باختصار "خارج الموضة/موضة قديمة (old fashioned) أي خشبي، بالتالي يجب الخلاص منه (ومنك بشكلٍ أو بآخر) بالتالي تصبح قضية تحويل "الخيانة" (كما في قصة المجنّدة الصهيونية غايل غادو ممثلة فيلم "المرأة العجيبة" مثلا ومسألة منع عرض فيلمها في البلاد العربية من عدمه) إلى وجهة نظر ونقاش إذا ما كان الأمر سلوكا حضاريا من عدمه، واستعداء المجندة الصهيونية أمرا من التخلّف (كما أشار أحد "المفكرين" المنفتحين). تعتقد كثيرٌ من الشعوب العربية "الكريمة" (ولا نجمل بالتأكيد) بأن الشعب الفلسطيني "خائن". العادل في الأمر أن الطرفين (المؤيد والمعارض للنظام -أي نظام-) يجدان الفلسطيني عميلا للطرف الآخر. في نفس الإطار، يحب جمهور "المقاومة" في الوطن العربي فلسطين، ويكره الفلسطينين تحت حجج ومسمياتٍ كثيرة، يكرهونهم ويتمنون موتهم (وحرقهم بالأسيد والبنزين وسواها) ويحبون فلسطين ويتمنون الحجّ إليها؛ هي فلسطين خالية من الفلسطينين "الجراثيم" (على حد تعبير أحد مثقفي القطعة). من جهةٍ أخرى يبرع طاقمٌ كبير من الصحافيين والكتّاب بالكتابة عن الفلسطينين بمنطقهم الأم -وليس مهما الاتجاه الذي ينحون صوبه: سواء مع الفلسطيني أو ضده- متناسين أنهم لايعرفون عن الفلسطيني إلا ما يريدون رؤيته: أي ببساطة أنهم لايفكّرون مثله، ولم يعيشوا حياته، فهل كانوا يقبلون منه أن يكتب عن قضاياهم ومشاكلهم حتى ولو ولد في بلادهم؟ باختصار؛ اليوم أكثر من أي يومٍ مضى يبدو الانتماء إلى فلسطين كارثيا. لكن هذا قدرنا، وطريقنا، وكل شيء بالنسبة لنا. ففلسطين هي فلسطين، ونحن نحن. أبد الدهر، أبدا الدهر.